والألفاظ المقتصدة والمختصرة تتّمتع بمحاسن لطيفة تجدر الإشارة إليها، أقربها إلينا أنها تعين الذاكرة على حفظ الكلام، فالألفاظ القليلة طبيعياً يكون أسرع إلى الحفظ من كثيرها، فنعرف أن هناك ألوان في الكلام العربي كالوصايا، وأيام العرب، التي تسجل أمجادهم وأبرز أخبارهم وأهم أحداثهم، والتي كانت متناقلة عبر أجيال متعاقبة، ولو لم تكن في عباراتها ألفاظ وجيزة مما يجعلها ألصق بالذاكرة، لكانت قد أطمست معالمها وتلاشت قبل أن تدون ولم يصل إلى أيدينا شيء،
كما أن "للكلام غاية، فإن لنشاط السامعين غاية، وما فضل عن مقدار الاحتمال دعا إلى الاشتغال، وصار سبباً للملال"، فمما تتمتع بها الألفاظ الوجيزة دفعها للملل الذي يدعوا إلى الاشتغال، فيفقد الكلام قيمته.
خواص الإيجاز في المعاني
من خواص الإيجاز التي تشدّ الانتباه، هي غزارة المعاني التي تسوقها الألفاظ الوجيزة، وهذه في حدّ ذاتها تشكّل خاصيّة هامة ومميّزة ينفرد بها الإيجاز، ولقد ردّدنا مراراً في الصفحات السابقة عن هذه المعاني الغزيرة والعميقة، التي تصاحب عبارات الإيجاز في الأمثلة التي أتينا بها، وحان لنا الآن أن تكون وقفة خاصة مع هذه المعاني التي يتعامل معها الإيجاز.
إن للمعاني مع الإيجاز شأن عظيم وحديث طويل، بدايته أن الإيجاز في اكتنافه للاختصار والحذف، يهدف إلى أمر نفسي، يتعامل مع الإحساس والشعور فيجعلهما على أوسع وأرحب ما يمكن، وفي هذا كان الرماني من الأوائل الذين التمسوا العلة البلاغية للإيجاز وبيان أنها ليست للاختصار فقط، بل هو أمر نفسي بحت يجعل المجال الشعوري متسعاً، فيتيح للسامع أن يوسّع مجال خياله ليتوهّم كثيراً من الأشياء التي يحتمل أن يحمل معانيها اللفظ المتواجد أمامه، والمفهوم الخفي من الكلام في آن واحد.
ولنتبيّن هذا بجلاء، نتّخذ المقولة الآتية التي حذف منها الجواب، "لو رأيت علياً بين الصفين"، فإن السامع لها تذهب نفسه كل مذهب ممكن، ويطلق عنان خياله ليسبح في أفاق أرحب لهذه المعاني التي تلوّح بها المقولة، من غير أن يتقيّد بقيد ما، بخلاف ما لو قلنا: "لو رأيت علياً بين الصفين لرأيت شجاعاً، أو لرأيت رجلاً يقتل الأبطال"، وما شابه هذا، فإن المعنى يكون مقتصراً على البيان الذي كان فيه فقط، ولم يكن في العظم الذي كان في حذف الجواب.
ومن أساليب الإيجاز ما يدفع إلى إعمال الفكر والتأمّل، لتظهر المعاني في الخيال، ومما تركز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله ألذ وأحلى، وموقعه في النفس أجلّ وألطف.
والكلام متى كان سليماً من الفضول بريئاً من التعقيد، حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وخف على ألسن الرواة وعظم في الناس خطرة"، كما أورده "الجاحظ".
الإيجاز الفصيح
الإيجاز الفصيح أو الإيجاز البليغ، قد حاز باهتمام العلماء، ودارت حوله طائفة من الأقوال والآراء في محاولة تحديد مفهوم له، وبيان أنه ليس مجرد أسلوب في التعبير عن المعاني، وإنما هو صورة من صور الفصاحة.
كما أنه في البلاغة ذو شأن عظيم، وهذا الشأن هو المقصد الذي نتناوله بين أيدينا، لنجعله في الظاهر والبينة، كي يتضح أمامنا بصورة جلية كيف تكون بلاغة الإيجاز في العربية، عرفنا الإيجاز المخل، وهنا سنستزيد المعرفة عن الإيجاز الفصيح أو البليغ.
فالإيجاز سبق وأن جئنا له بأكثر من تعريف، وهو على رغم تباين تلك التعريفات فإن له مفهوم واحد، وهو: أداء المعنى المقصود بأوجز وأقل الألفاظ، والفصيح: من الفصاحة، ونعرف أنه: الظهور والبيان، وأن الكلام الفصيح هو: سلامته بعد فصاحة مفرداته مما يبهم معناه، والبليغ: من البلاغة، التي سميت كذلك لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه.
إذن، فيكون التعبير عن المعاني بألفاظ سليمة وفصيحة تبلغ نفس السامع وتنتهي عنده تامة من غير إبهام بألفاظ وجيزة، أو أقل من تلك المعاني هو عين الإيجاز الذي امتزج فيه الفصاحة والبلاغة.
¥