أما الفصل الأخير, فقد توقفتُ فيه عند الجهود التطبيقية التي تبلورت على يد شاكر, حيث تم اختبار فاعلية الجهاز النظري في مسارات تاريخية وأدبية كشفت عن مقدرة بالغة في المواءمة بين المنظومة النقدية النظرية ومجالاتها التطبيقية, فتوقفت عند قراءة شاكر لشعر المتنبي ومدى إسهام هذه القراءة في إنارة كثير من زوايا التجربة الشعرية لهذا الشاعر الكبير, وكيف أن منهج "التذوق" قد بدد بعض المسلمات المتعلقة بأبي الطيب, وأنجز بعض الاجتهادات التي لم تكن معروفة عند جمهرة الدارسين.
وقبل التوقف عند أهم أعمال شاكر التي مارس فيها فاعلية التذوق, أعني "أباطيل وأسمار" و"نمط صعب ونمط مخيف", توقفت عند مبحث في غاية الأهمية هو "علم معاني أصوات الحروف ... " حيث كان شاكر يعلق آملاً كبيرة على الفوائد التي يمكن تحقيقها من خلال نفوذ البصيرة في الفروق المعنوية الناشئة عن اختلاف الأصوات وطبيعتها, وأن ذلك لن يتم إلا من خلال ذائقة صقيلة مدربة تحسن الهدي إلى المضايق الخفية.
أما "أباطيل وأسمار" فقد تتبعتُ فيه تجليات القدرة الباهرة على تذوق الخبر التاريخي, والجهد الفيللوجي العظيم الذي يبذله الناقد في ضبط دلالات البيان الإنساني, وكيف أن شاكراً كان يبدد الضباب ويفضح التفسيرات الزائفة من خلال قدرته الفذة والاكتناه.
ثم كانت الوقفة الأخيرة مع "نمط صعب ونمط مخيف", وهو الكتاب الذي توفّر فيه شاكر على تذوق أحد النصوص الصعبة من الشعر الجاهلي, وحاول من خلاله أن يدفع فاعلية التذوق إلى أقصى آمادها في التحليل والاستكناه, وإثبات أن الذائقة المدربة والحس المرهف والمعرفة العميقة هي التي تتيح تقديم قراءة ثرية للنص, وتبدع في تنوير ما يكتنفها من الظلمات.
وختاماً, فإنَّ هذا البحثَ لا يدعو كونه إسهاماً متواضعاً في سياق مجموعة من البحوث التي تبلورتْ حول جهود محمود شاكر, وهو في أقصى دلالاته لا يزعم لنفسه أنه قد قال الكلمة الأخيرة في هذا السياق, فإذا قُدر له أن يكون أحد البحوث الجيدة التي تحظى باحترام الدارسين, وإنجازاً أكاديمياً يأخذ بأسباب المنهج ويحسن تفحص المقدمات قبل إفضائها إلى النتائج, ففي ذلك مقنعٌ ورضىً, وإنْ كانت الأخرى, فقد بذلت ما أطيق, ولم آلُ جهداً في سبيل تجويد هذا البحث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
د. إبراهيم الكوفحي
قسم اللغة العربية وآدابها – الجامعة الهاشمية
الزرقاء – الأردن
5. أيضاً رسالة جامعية أردنيّة.