ولا: أكلت طيباً، كقولك: أكلت الطيب؟
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:
" أنت الحق ووعدك الحق "، ثم قال: " ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق "، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الباري - سبحانه وتعالى - وما هو صفة له، وهو القول والوعد.
فإذا ثبت هذا فلو قال: " صراطاً مستقيماً " لكان الداعي إنما يطلب الهداية على صراط مستقيم على الإطلاق، وقد علم أنه على صراط مستقيم وهو الإسلام، فإنما يطلب ما هو أقوى من طريقته التي هو عليها في علمه، لأن كل فريق من المسلمين
مستقصر لنفسه في العمل، وراغب إلى ربه، في التوبة والهداية إلى الأفضل، حتى ينتهي الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقولها أيضاً، لأنها أخوف لربه، وأكثر استقصاراً لعمله، وكان يستغفر ربه - عز وجل - ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، وقال في الحديث:
" نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي ".
فإن قيل: فقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان على الصراط الأقوم، فضلاً عن صراط مستقيم على الإطلاق؟
فالجواب: أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان المسلمين قد كرهوا
ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلم يرد صراطاً مستقيماً في الدين، وإنما أراد صراطاً مستقيماً في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تعالى:
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراطٍ مستقيم.
ولو قال في هذا الموطن: " الصراط المستقيم "، لجعل للكفر والضلال حظاً من الاستقامة، إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرن
به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه.
وأما اشتقاق الصراط فمن " سرطت الشيء أسرطه "، إذا بلعته بلعاً سهلاً.
فالصراط هو الطريق السهل القويم، وجاء على وزن " فعال "، لأنه مشتمل على سالكة اشتمال الحلق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء، وكذلك الشكال والعنان، إلى سائر الباب.
وأما ذكره بلفظ (الطريق) في سورة الأحقاف خاصة، فلأنه انتظم بقوله
سبحانه: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى).
وإنما أراد أنه سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله، وأنه ليس ببدع، كما قال في السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ " الطريق "، لأنه " فعيل " بمعنى " مفعول ".
أي: إنه مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل، وليس في المواضع الأُخر ما يقتضي هذا المعنى.
فكان لفظ الصراط بها أولى، لأنه أمدح من جهة الاشتقاق والوزن كما تقدم.
وأما إضافته إلى اللفظ المجمل، ولم يقل: " صراط النبيين والصالحين ".
فلفائدتين: إحداهما: نفي التقليد عن القلب، واستشعار العمل بأن من هدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، ولو ذكرهم بأعيانهم لم يكن فيه هذا المعنى.
والفائدة الأخرى أن الآية عامة في طبقات المسلمين مسيئهم وصالحهم.
والمسيء لا يطلب درجة العالي حتى ينال التي هي أقرب إليه، ولفظ
(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشمل الجميع، وجميع المأمورين بهذا الدعاء يطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم أصناف، كما أن السائلين لدرجاتهم أصناف.
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ولم يقل: " المنعم عليهم "، فلأن
ذكر نعمة المنعم والثناء بها عليه وذكر النعم شكر، وإبراز ضمير الفاعل العائد على الله سبحانه من قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ذكر لله تعالى باللسان والقلب، ولو قال: " المنعم عليهم " لخلا هذا اللفظ من هذه الفوائد المقرونة بالدعاء، وهي الشكر والذكر، ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)؟
فأضاف الفعل إلى ربه، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
ولم يقل: " أمرضني "، كما قال: (يُطْعِمُنِي)، إذ ليس في قولك
" أمرضني " إلا الإخبار المجرد عن الشكر والثناء، وربما اقترن به تسخط وتضجر، فعدل عنه إلى قوله: (مَرِضْتُ).
ولذلك قال سبحانه: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولم يقل:
¥