وهذا ما بينه الكاتب في قصة " الاختيار القاتل" حيث إن علال الجنداري لم تتح له فرصة النجاة من الغرق و العودة إلى الحياة وتكرار التجربة لقد كانت المرة الوحيدة و الأخيرة.
فهو الذي هاجر الوطن (الفضاء الأنا) إلى أوربا (الفضاء الآخر) عبر قوارب الموت، وهذه الهجرة لم تكن من أجل تغيير الفضاء، بل الظروف الصعبة هي التي حتمت عليه الهجرة، ومغادرة الوطن.
إن الوطن من منظور البطل هو الذي يلفظ أبناءه (تأكد من أن سي علال لم يكن خائنا لوطنه .. ولكن وطنه هو الذي فرط فيه ورماه يعانق الرمال الأجنبية)
إذن نحن هنا أمام مسألة مقلوبة بدل العيش في الوطن وفي أحضان الوطن أصبحنا نجد منظومة أخرى معاكسة، أصبح الإنسان يرضى بوطنه رغم المشاكل، لكن الوطن من جهة أخرى يلفظ أبناءه و يرميهم في أحضان البحر و من نجا منهم يكون مادة خصبة في يد الأخر يفعل به ما يريد.و كان علال الجنداري رقما ضائعا وسط أرقام أخرى ضائعة.
وكان لهذه المغامرة تأثير كبير على المرأة التي كانت بين نارين، بين نار الرغبة في تحسين وضعيتها ونار الخوف على موت علال وبقائها أرملة وهذا ما حصل بالفعل.
لقد غرق علال في عرض البحر و خرج جثمانه الذي تعرض لنهش الغربان، وبقيت رابحة العنورية تواجه الحياة (فما عليها إلا أن تكون صلبة، تشد بأظافرها على الصخر،طول امتداد حياتها) و (ما يقلقها هو أنها ستدحرج صخرة سيزيف وحدها).
إن الأبطال في هذه المجموعة القصصية كلهم يحملون رؤية مستقبلية إلى العالم، من خلال منظور فلسفي يغوص في أعماق الواقع، ويحركه من أجل خلخلته و إنتاج جدلية تساهم في إعطاء تصور علمي عملي يساعد على تحقيق مجتمع مستقر، متلاحم يجمع كل فئاته في إطار شاسع عميق، يسوده الحب و السعادة.
هذه السعادة التي يصعب تحقيقها في مجتمع مضطرب كهذا المجتمع الذي سجله الكاتب أدبا، هذا المجتمع الذي يحضر فيه الاختلاف الأسري بشدة " وجهك نحس عليا يا خويا، سيادك كيصوروها وهي طايرة في السما".
إنه جانب من جوانب الصراع الأبدي بين الأزواج، ردود المرأة التي لا تعرف حدودا و لا احتراما لمكانة الزوج، فقد لفظته بمجرد ما انتهت نقوده، فأصبح رقما ضائعا (ما أنا إلا رقم بشري ضائع يحصى في الانتخابات)
و الكاتب في هذه المجموعة القصصية انتقل بالأبطال من الدور الثيمائي الذي كان مجرد رؤى إلى الدور التصويري الذي يهدف من خلال تحقيق كل هذه الرؤى على مستوى الواقع و بشكل جدي.
فهو يسعى إلى حياة جميلة ترقى فيها الكلمة و تسموا في عالم من الجمالية و الفنية لأنه يتأسف على عالم الشعراء و أصحاب الكلمة الجميلة (لقد رحل الشعراء، وبقي المقدمون و الشيوخ يدقون طبول القمع في البلد).
و مجتمع كهذا الذي يمنع فيه ذبح الخرفان، إلا بعدما تصل السن الثالثة من عمرها، ويمنع كذلك شراء المبيدات الحشرية لرش الحشرات، إلا بإذن من السلطات، إنه مجتمع لا قيمة فيه للإنسان،إن الخرفان و الحشرات أهم من الإنسان، الذي وصل في لحظة من اللحظات معدودا من الأموات وهو من الأحياء (تشهد على نفسك أن المسمى علال الجنداري قد توفي بتاريخ 20.10.01 ,
إنه جاري هو لازال حيا ... لقد شاهدته هذا الصباح).
إن سلطة القانون أصبحت في يد جماعة من الجهلة الذين لا يفهمون إلا لغة الرشوة و الاغتناء على حساب الناس.
فالإنسان مهم بقدر مقدار و أهمية الرشوة التي يعطيها للمسؤول (فالذي يعطي مرآة ليس هو الشخص الذي يعطي بغلا هدية) لأن (البغل كسر المرآة يا أخي .. ألا تفهم يا أخا البهائم).
و الكاتب يتدخل على لسان الأبطال من حين لآخر لإعطاء جرعات فكرية و مواقف إيجابية، تنير الطريق لأبطال قصصه، فتراه يظهر تدمره من الجهل المسيطر على القرية مبينا أن الوعي يؤخذ و لا يعطى، فيدعو إلى اتخاذ موقف واحد و التوحد من أجل فرض الذات، ودفع الآخر إلى احترام وجهات نظر الضعفاء (هنا في قريتي، يعطى الوعي بمقدار، و الحرية لا تعطى بالمجان .... السياسة العفنة في الدول المتخلفة تولد تاريخا مريضا، تهندسه أيادي ملطخة بحناء الانتهازية و الوصولية).
¥