كان هذا الآدم الأمريكي ينظر الى نفسه "كفرد" –لا أكثر، ولكن ايضا لا أقل –يبدء العالم عنده من حدود حاجاته، وينتهي أيضاً عند حدود إشباعها .. لكنه يظل "فرداً"- -ليس جزءً من مجتمع- ولم يهاجر ويخوض المخاطر من أجل شعارات كبيرة وقيم من نوع تغيير العالم، أو إصلاحه، أو إعادة بنائه على اسس جديدة (رغم أن شيء من هذا حصل لاحقاً) .. لكن هذا لم يكن في باله ..
إنه "الفرد" – ولا شيء بعد ذلك! .. لم ينظر هذا الآدم الأمريكي الى نفسه الا على اساس أنه فرد، فرد وحيد في مواجهة الطبيعة وتحدياتها، فرد وحيد في مواجهة الأعداء المتوحشين، إنه مرة يكون ذلك الكاوبوي الذي يجوب الصحراء وحيداً ويخلص المدينة الصغيرة من عصابة الأوغاد ثم يعود أدراجه وحيداً من جديد ..
ومرة يكون "السوبرمان" – وملابسه باللونين الأزرق والأحمر كرمز للعلم الأمريكي .. وقد ترك كوكب كريبتون و اختار حضارة الفردوس المستعار ليستقر فيها, كفرد ..
ومرة يكون "رامبو" وحيد ومنفرد ومفتول العضلات ويقتل الأشرار كما لو كان يهش ذباباً .. ، وأخرى يكون باتمان المتخفي وحقيقته هي خفاش فرد بعيد عن الآخرين.
وهكذا دواليك في عشرات الرموز السينمائية التي تعبر عن اسطورة الفرد تمد وتجزر عبر تكرار الصور، وتتغير التفاصيل، لكن كل ذلك لم يكن إلا رمزاً متكراً لمعنى واحد .. لذلك الآدم الأمريكي الفرد الذي صار ركناً من أركان الفردوس المستعار.
************************
إنها الفردية، ثاني ثوابت حضارة الفردوس المستعار ..
*********************
الفردية في كل مكان ..
عندما أبدأ بالدخول في هذا الموضوع، فإني مدرك تماماً أن فكرة الفردية دون إسمها وأيدلوجيتها وفلسفتها، منتشرة وسائدة عندنا كما في كل مكان آخر في العالم، مثلها البيبسي كولا والهامبركر ومنتجات الأديداس، لكن بينما تلك السلع تكون واضحة وجلية للعيان المادي .. فأن الفردية تسير بشكل خفي، تجري مجرى الدم، تصير بديهة، تصير أمراً واقعاً لم يشك فيه أحد ... إنها، مع التكريس والتقادم، يكاد ينظر إليها على أنها جزء من الفطرة الإنسانية ..
لكن سيؤسفني أن أخيب آمالكم وأقول شيئاً عكس التيار الى حد بعيد ..
لم تكن الفردية في يوم ما جزء من الفطرة الإنسانية.
بل إنها لم تكن إصلاً جزءً من تاريخ الإنسانية .. الى أن حدث ذلك الخطأ الحسابي الذي قاد كولمبوس الىإكتشاف قارة أمريكا ..
لم تكن الفردية يوماً ما سوى شيئاً ذميماً .. الى ان جاءت حضارة الفردوس المستعار.
ولست أنا يقول هذا!
*****************
عالم جديد يولد، و "الفردية" مرت من هناك ..
يحدد إلكس دي توكفيل Alexis de Tocqueville مبدأ "الفردية" بإنه الحد الفاصل بين العالم القديم، والعالم الجديد ..
ويندر جداً أن يتفق المفكرين والمنظرين سواء كانوا مدافعين أو مهاجمين – كما إتفقوا على أن مبدأ "الفردية individualism" كان من اهم مميزات الحضارة الأمريكية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق برأي البعض.
لم يكن المبدأ مهماً فقط لنشوء الحضارة الأمريكية، بل كان مميزاً لها عن غيرها من الحضارات. لقد كان مذهب الفردية غريباً وهجيناً على كل النظم الحضارية السابقة لولادة الفردوس المستعار، وكان ينظر للفردية على أنها خطر كامن على المجتمع وقيمه ودوام إستمراريته. وكثيراً ما كانت تقمع وبقوة مبالغ بها من قبل بعض النظم الحضارية ... لكن هذا الأمر إختلف في أمريكا، فبدلاً من أن يصير "خطراً كامناً" على المجتمع، إذا به يصير "دعامة أساسية" من دعامات المجتمع، ودلاً من ان يكون قيمة سالبة إجتماعية ومنبوذة إذا به يصير من أهم القيم الإيجابية في المجتمع ..
(ومن هناك، تم تسويق هذا المبدأ الى العالم كله، بحيث صار يبدو كما لو أنه ملاصق لإنسانية جمعاء، وحقيقة أصله ومنشأة هي أمريكية 100%).
ولنرَ ما هي هذه "الفردية" ...
****************
ثلاثة في واحد
تشكل الإطار النظري والأيدلوجي لمذهب الفردية عبر ثلاثة مفكرين، تركوا أكثر من مجرد بصمة على الفكر الأمريكي وعلى الأفق المعرفي الذي إزدهرت من خلاله طريقة الحياة الأمريكية ..
هؤلاء المفكرين هم رالف والدو إيمرسون Ralph Waldo Emerson(1803-1882) وهنري ديفيد ثورو 1817 - 1862 Henry David Thoreau، وألكس دي توكفل- (1859 Alexis de Tocqueville (1805- .
¥