لقد كان ذلك السلوك ذميماً عبر العصور التي تشكلت فيها الحضارة الإنسانية بمختلف أطيافها .. رغم وجود إختلاف كبير في مقومات كل حضارة على حدة، إلا إن علاقة الفرد بالمجتمع كانت سمة مميزة مشتركة لمختلف الحضارات ... ، وكانت قيم الإيثار ونكران الذات ومساعدة الغير تحتل مكانة القيم الإجتماعية العليا، والتي ينظر إليها على أنها القيم الأكثر كسباً للإحترام، والتي يحوز الشخص الذي يحققها على مكانة أكبر إجتماعياً تتحق فيها (ذاته) من خلال منحه للآخرين ..
نعم، كانت علاقة الفرد بالمجتمع تتحدد من خلال خدمته هو لهذا المجتمع- ولن أدعي أن تلك القيمة كانت تتحقق سلوكياً عند المجتمع كله، لكن الضد من هذا كان دوماً يذم ويحقر ويلصق به أبشع الملصقات: مثل الأنانية والبخل والجشع والذاتية ..
وظل الأمر كذلك، الى أن جاءت أمريكا .. وصارت الصفة التي كانت مذمومة ومرفوضة، صارت قيمة إيجابية عليا .. يرتكز عليها مجتمع بأكمله و تتسرب الى اعماق الشخصية الامريكية و جزءا من العادات المتأصة في عمق الشخصية الامريكية و ترتكز عليها مفاهيم حضارة بأكملها ..
وتغير إسمها، من الأنانية، الى الفردية.
***************
] الفردية و دور الداينمو في مجتمع الغابة الداروينية]
على أني هنا، علي أن أعترف مرة أخرى، أن الفردية، بهذا المفهوم، لعبت دوراً (إيجابياً) -بمقاييس الفردوس المستعار -في البناء الحضاري الأمريكي ..
لقد كانت الفردية، بمثابة الداينمو التي حركت الآدم الأمريكي، ملئته بالدوافع والحوافز، وصار الإنجاز وتحقيقه حلماً لكل فرد، لا يحقق ذاته إلا من خلال الإنجاز الفردي .. و لا يكون "امريكيا" الا من خلاله ..
لقد منحت (الفردية)، بهذا المفهوم للطموح أرضاً خصباً، ومنحت النظرية الفكرية الصلبة لما كان مجرد سلوكاً بشرياً ذميما ..
***********************
وفي الوقت نفسه، أنبه الى أن الفردية، ثاني ثوابت الفردوس المستعار نشأت في حضن الثابت الأول-حجر الاساس-، المادة.
ولقد دمغ هذا الشيء كل ثوابت الفردوس المستعار المتتالية ..
فالفرد، الذي تكون من خلال الفردية، هو فرد مادي، يؤمن بالمادة، كحل لمشاكله .. وهذا يطبع بالذات كل طموحاته وإنجازاته – التي سيحقق ذاته من خلال تحقيقها- بطابع مادي بحت .. لا شيء خلف المادة ذات الأبعاد المحددة والحواس الخمسة ..
وينسجم ذلك، مع فكرة (الإيمان بالمادة) نفسها، فالفرد نفسه هو (المادة) هنا، له أبعاد محددة، وله طابع حسي متوافق مع فكرة المادة .. ، وسيحقق له هذا إطاراً يمكن له من خلاله أن يحقق فيه ومن داخله إيمانه بالمادة ..
**********************
.. وينسجم ذلك مع ما فهمناه عن الطابع البرغماتي للقيم الأمريكية. فالنفع الذي تقدسه البرغماتية هو ذلك النفع المادي المباشر المرتبط بمصلحة الأفراد – كأفراد- وليس كفرد هو جزء من مجتمع ..
ولقد رأينا كيف أن ما يراه الفرد هو الصواب يغض النظر عن النتائج الإجتماعية اللاحقة، فالفرد هو الهدف، وما يراه نافعاً له، هو الصواب بغض النظر عن النتائج النهائية للأمر، التي قد لا تلحق الفرد نفسه بضرر، بل قد تلحقه بأفراد آخرين- ربما تشكلوا وخلقوا أصلاً نتيجة لما تصور أنه منفعته الخاصة .. (كما الأمر في الأطفال خارج نطاق الزواج) ..
نعم، إرتبطت المادية بالفردية إرتباطاً كاثوليكياً لا إنفصال فيه عبر مفهوم البرغماتية .. وصار الفرد، من خلال هذا المفهوم، رغم كونه عابر ومحدود العمر، هو المعيار الأول للقيم الإجتماعية ..
******************
وينسجم هذا المفهوم أكثر، مع مفهوم "البقاء للأصلح" بالرؤية الداروينية. فالعلاقة الأساسية بين أفراد المجتمع حسب سبنسر هي "المنافسة" في الصراع من أجل البقاء حيث القوي يأكل الضعيف والضعيف يأكل الأضعف منه ..
نعم، إن الفردية تستخدم المنافسة، والمنافسة ستتحفز بالفردية، وكونك فرد ولا تؤمن بشيء خارج حدود ذاتك سيجعلك تمضي في سباق البقاء للأصلح بشكل أيسر، وأكثر تخففاً من أعباء الضمير ومساعدة الآخرين .. وكل ما الى ذلك من أثقال ..
مع الإيمان بالفردية، المنافسة في السباق أوضح، و"البقاء للأصلح" يصير هدفاً شخصياً، يصير طموحاً ينجز من خلال تحقيقه كينونة الفرد نفسه ..
تتطور الفردية دوما بهذا الاتجاه، بأتجاه عزل "الفرد"اكثر فأكثر عن الاخرين من حوله .. الى ان يصير حبيسا تماما داخل ذاته.
¥