ولكي يدلل الرماني على روعة الإعجاز القرآني من حيث الإيجاز، يقارن بين قولهم: "القتل أنفى للقتل" وبين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} فيقول: إن بينه وبين لفظ القرآن تفاوتا في البلاغة والإيجاز، وذلك يظهر من أربعة
أوجه: أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من التكلفة بتكرير الجملة
وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة، أما الكثرة في الفائدة، ففيه كل ما في قولهم: "القتل أنفى للقتل" وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير "القتل أنفى للقتل" قوله: {الْقِصَاصِ حَيَاة} والأول أربعة عشر حرفا والثاني أحرف.
وأما بعده من التكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن في قولهم: "القتل أنفى للقتل" تكريرا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر في البلاغة عن أعلى طبقة.
ثم يتابع الرماني مستشهدا على دقة المعاني القرآنية، ومدى إعجازها البلاغي الذي يبرزه الإيجاز متناولا هذا الإيجاز من جميع زواياه .. هذا عن الباب الأول.
بيد أن هذا الباب وإن كان عميقا إلا أنه يبين حقيقة مفهوم الرماني للإعجاز.
ابن جنيّ
هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي وقد كان أعجميا، (ت-392هـ)،والأعاجم عادة تعمد إلى التكرار والإطناب لتصل إلى الإقناع، وله مصنفات تتعلق بعلم النحو كالخصائص وسر الصناعة والمحتسب ومحاسن العربية وغيرها.
اشترط له شرطين: أحدهما هو أن يكون الإيجاز مفيداً، فقد نبه إلى أن إفادة الكلام شرط لحسن الإيجاز، حتى لا يكون الكلام مخلاً بالمعنى المقصود بسبب هذا الإيجاز، فمن ذلك كان المقياس الجمالي والمتمم لبلاغة الإيجاز يشترط مع الحد الأقصى من الإيجاز حداً أقصى من الوضوح والإفادة، وهذا معنى قول القائل: "إصابة عين المعنى بالكلام الموجز".
وهذا الوضوح المفروض للمعنى يجب أن لا يتأتى عن طريق الإطالة والإسهاب، وإلا فقد حينئذ صفة البلاغة، بل ينبغي له أن يتم في حدود الإيجاز والتكثيف، وإذا عدنا إلى الأقوال التي قيلت في تحديد مفهوم الإيجاز، نجد أن ما جاء منها يقول: "الإيجاز هو البلاغة"، فلا غرو من أن المقصود هو الإيجاز الموحي والمكثف على وضوح وظهور، فالحد في البلاغة هنا يكمن في صواب الكلام ضمن حد أدنى من الإيجاز، على ألاّ يتعداه إلى الوقوع في الإبهام، الذي ينتج عدم تمكن السامع من الفهم.
ونعرف أن الكلام أو المتكلم متى كان بليغاً فهو فصيح ضمناً، فلا نرى ضيراً من تسمية الإيجاز الفصيح بالبليغ، لما يشمله البلاغة من فصاحة، ومن ذلك فلا يفوتنا التنبيه إلى أنه من متممات فصاحة وبلاغة هذا الإيجاز هو الوضوح، بل أنه يشكل شرطاً أساسياً وحداً من أدق حدود البلاغة في الإيجاز، وهذا معنى قولهم: "لمحة دالة"، في وصفهم الفصاحة في حد البلاغة، فالإيجاز لا يعد بليغاً إلا إذا توفر فيه وضوح المعنى أو المعاني في نطاق ألفاظ متخيرة جميلة موضوعة في إطار من الإيجاز والإيحاء.
ويقول عن:
وحديثها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
شرك القلوب وفتنة ما مثلها
للمطمئن وعقلة المستوفز
فذكر أنها تطيل تارة وتوجز أخرى والإطالة والإيجاز جميعا إنما هما في كل كلام مفيد مستقل بنفسه ولو بلغ بها الإيجاز غايته لم يكن له بد من أن يعطيك تمامه وفائدته مع أنه لا بد فيه من تركيب الجملة فإن نقصت عن ذلك لم يكن هناك استحسان ولا استعذاب ألا ترى إلى قوله
قلنا لها قفي لنا قالت قاف
وأن هذا القدر من النطق لا يعذب ولا يجفو ولا يرق ولا ينبو وأنه إنما يكون استحسان القول واستقباحه فيما يحتمل ذينك ويؤديهما إلى السمع وهو أقل ما يكون جملة مركبة وكذلك قول الآخر فيما حكاه سيبويه ألا تا فيقول مجيبه بلى فا فهذا ونحوه مما يقل لفظه فلا يحمل حسنا ولا قبحا ولا طيبا ولا خبثا. لكن قول الآخر مالك بن أسماء
أذكر من جارتي ومجلسها
طرائفا من حديثها الحسن
ومن حديث يزيدني مقة
ما لحديث الموموق من ثمن
أدل شئ على أن هناك إطالة وتماما وإن كان بغير حشو ولا خطل ألا ترى إلى
قوله طرائفا من حديثها الحسن
¥