تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومهما يكن، فإن الذاكرة تخون في بعض الأحيان، والكلام المسهب قد يتعرض بعضه للنسيان بسبب طوله، ومن هنا، ولهذه الاعتبارات دعت الحاجة إلى الإيجاز في البداية، كأهم وسيلة للحفاظ على التراث العقلي، وهكذا كان الإيجاز عندهم، الذي قلما نظروا إلى مفهومه كما هو لدى رجال البلاغة المتأخرين، على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته، تستدعيه مقتضيات الكلام أحياناً".

وعندما جاء الإسلام اتسعت الدولة الإسلامية كانت الحاجة إلى الإيجاز في سرعة البث في أمورها، إلى جانب تدوين الرسائل لأغراض مختلفة، "وما يتطلبه ذلك التدوين من قراطيس كان الحصول عليها شاقاً. ويروى أن عمر بن عبد العزيز كان إذا طلب منه كتّابه قراطيس أمرهم بالإيجاز والاكتفاء بما عندهم منها".

وهكذا كانت ظروف المجتمعين الجاهلي والإسلامي متقاربة من جهة قلة الكاتبين وندرة أدوات الكتابة، فبذلك ظل الإيجاز وسيلة أكثر منه غاية قائمة لذاتها.

ثم حظي الإيجاز بعد ذلك تدريجياً باهتمام طائفة من الأدباء يتفننون في طرقها وأساليبها، فكان ذلك بداية لمرحلة جديدة تطور فيها مفهوم الإيجاز، والنظر إليه على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته يتنافسون في الإبداع فيه حتى ود بعضهم لو أن الكلام كله مجرد توقيعات في قوالب من الإيجاز.

فمن الدواعي الظاهرة للإيجاز في الكلام إلى جانب ما تقدم، يتمثل في تسهيل الحفظ، لما في الإيجاز من اقتصاد في الألفاظ، وبعد عن التكلف فيها، وتقريب الفهم لتصويبه على المعاني، ومناسبته للمقامات الضيقة التي يحتاج فيها إلى الاقتصاد في الألفاظ، وتكثيفها الألفاظ بالمعاني، وأنه أنسب الطرق لتجنب الملل الذي قد ينشأ من الإسهاب والفضول في الكلام.

أثر البيئة العربية في خلق الإيجاز وتفضيله

إن للبيئة التي يعيشها العرب أثرها في ميلهم نحو الإيجاز، فالبيئة الصحراوية التي ينتمون إليها كثيراً ما كانت تدفعهم إلى الترحال من مكان إلى آخر، والحرارة الصحراوية تجعلهم عرضة للظمأ القاتل، مما يدفعهم إلى السعي الحثيث إلى نبع صاف في منعطف الوادي يروون ظمأهم.

ولأجل ذلك تعود العرب أن يقصدوا أقصر الطرق للوصول إلى غايتهم، وبالتالي انعكس ذلك على كلامهم أيضاً، فصاروا يبحثون عن أوجز الألفاظ تعبيراً عن أهدافهم.

لقد جاء الرماني في تفضيل الإيجاز بقوله: "وإذا كان المعنى يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة ويمكن أن يعبر عنه بألفاظ قليلة، فالألفاظ القليلة إيجاز".

ويسوق ابن سنان الخفاجي تعليله في تفضيل الإيجاز مما يوافق قول الرماني حين قال: "والأصل في مدح الإيجاز في والاختصار في الكلام أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها، وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى العبارة عنها بالكلام، فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني، وإذا كان طريقان يوصل كل واحد منهما إلى المقصود على السواء في السهولة إلا أن أحدهما أقصر وأقرب من الآخر، فلابد أن يكون المحمود منهما هو أخصرهما وأقربهما سلوكاً إلى القصد.

وإلى جانب تصريح الرماني وتعليل الخفاجي في توضيحهما تفضيل الإيجاز، وجدنا عند جعفر بن يحي - وقد كان كبيراً في هذه الصناعة - تأييداً لهذا الموقف في قوله: "إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات فافعلوا"، وفي عبارته حث على الإيجاز وتفضيله.

مواضع الإيجاز في الوجوه البلاغية

علم البلاغة علم يعني برقي الذوق والفن في الكلام، ليطرب الآذان والنفس بحلاوة اللسان وسحر المعاني، فهو يعني بالكلام بما يشمله من ألفاظ ومعاني، وينشد العناية والأخذ به لارتقاء مراتب الجمال والكمال، والاعتناء بتخير أحسن الألفاظ وأعمق المعاني، يقوم على صور شتى من الأوجه البلاغية. و الإيجاز، لا يقتصر على مساحة محددة، وفي لون واحد من ألوان أساليب التعبير عن المعاني، بل أنه يتسرب وينحدر في خلايا فنون وأوجه بلاغية أخرى، ليبرهن لنا أنه راسخ في هذه اللغة الكريمة، وأن بصماته ملموسة في البلاغة العربية.

ولقد أشار العلماء إلى هذا، إلا أن إشاراتهم كانت في مواضع متناثرة وصفحات متباعدة، مما قد يجعله هائما في جوانب مواضيع أخرى يفقد التنبه إليه، فرأينا أن جمع المتناثر وضمّه في حيِّز واحد يمثِّل برهاناً ملموساً يساعد على توضيح دور الإيجاز ومدى أثره في البلاغة العربية.

الإيجاز في التشبيه والمجاز والكناية والاستعارة:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير