من صور البيان وأساليب التعبير عن المعاني، أننا إذا أردنا إثبات صفة ما لموصوف معيّن، نأتي بأمر آخر تكون هذه الصفة واضحة فيه، ثم نعقد مماثلة بينهما تكون وسيلة لتوضيح الصفة والمبالغة في إثباتها، فكان هذا هو فن التشبيه.
والتشبيه في تعريفه اللغوي، هو: "التمثيل"، وفي الاصطلاح، هو: "عقد مماثلة بين أمرين أو أكثر، قصد اشتراكهما في صفة أو أكثر بإحدى أدوات التشبيه لفظاً أو تقديراً لغرض يقصده المتكلم".
والتشبيه فن رفيع في البلاغة، لما يضفيه على المعاني من حسن وبهاء، ويكسبها وضوحاً وتأكيداً، وإذا كان لنا حديث عن أساسيات التشبيه، فيجدر أن لا نغفل عن ذكر أركانه، التي هي بمثابة دعائم يقف عليها التشبيه، إذ لابد له منها في كل صوره اللغوية، حتى يطلق على الكلام تشبيه، وأركانه هي: المشبه، والمشبه به، ووجه الشبه، والأداة.
والتشبيه في عموم صوره لا يمكنه الاستغناء عن هذه الأركان، سواء استحضرها جميعاً ظاهراً، نحو: "زيد كالأسد في الشجاعة"، أو اكتفى بإظهار بعضها وإضمار أخرى، فمن هذا المنطلق كان التشبيه فن واسع الخطوات و متشعب الأطراف، وهو إلى جانب ما يحمله من أوجه بلاغية رفيعة لا يسعنا المقام لحصرها، فإنه صورة من صور الإيجاز وبلاغته في اللغة أيضاً.
وبعض أساليب التشبيه أقوى من بعضها الآخر في المبالغة ووضوح الدلالة، وعلى ذلك فإنه عند العلماء على مراتب، تتعاقب وتتفاوت بذكر أو حذف بعض أركانها، أدناها ما كان محرراً من القيود بتوافر كل أركان التشبيه.
فإيجاز التشبيه: يكون الاسم الواحد فيه يفيد الموصوف والصفة والتشبيه والمبالغة، لأننا نفيد بقولنا: "رأيت أسداً"، أننا رأينا رجلاً شجاعاً شبيهاً بالأسد، وأن شبهه به في الشجاعة على أتم ما يكون وأبلغه، حتى أنه لا ينقص عن الأسد فيها.
والتشبيه فن له أقسام وفروع، على اعتبارات أركانه، ومن فروعه ما لم يصرّح فيه بركن أو أركان من التشبيه، وينوى تقديرها في نظم الكلام، فكانت صورة من صور الإيجاز، حتى أن العلماء في تحديدهم لمراتب التشبيه جعلوها متفاوتة بحسب ما حذف فيها من ركن، وكان أعلاها مرتبة وأقواها بلاغة هي: ما حذف فيها أكثر أركان التشبيه، لأنها تكون مبنية على ادعاء أن المشبه والمشبه به شيء واحد.
وهناك الضمني، الذي لا يصرّح فيه بالتشبيه على صوره المعهودة، بل أنه يلمح من سياق الكلام، فكان إيجاز هذا النوع في أن التشبيه كلما دقّ وخفي، كان أبلغ وأوقع.
وإيجاز المجاز: يتضح لنا من قولنا: "رعت الماشية الغيث"، فهي عبارة أوجز من قولنا: "رعت الماشية النبات التي سببتها الغيث"، فالمجاز في لفظ "الغيث"، بقرينة رعت، وعلاقة سببية، وعرفنا المجاز بأنواعه، وأن الاستعارة نوع ثاني من أنواع المجاز اللغوي، وهي في حد ذاتها تحمل لوناً من ألوان الإيجاز، الذي هو غرضاً من أغراضها البلاغية.
وأول ما يظهر لنا من الإيجاز في الاستعارة أن أصلها تشبيه حذف أحد طرفيه ووجه شبهه وأداته، فهذه صورة جلية للإيجاز لا غشاوة عليها، فأبسط صورها قوله تعالى:) اهدنا الصراط المستقيم (، والفرق واضح بينها وبين قولنا: "اهدنا إلى التمسك بالقيم الدينية ليتحقق لنا الفلاح".
وأما إيجاز الكناية: فيتمثل في قولنا: "هند نؤوم الضحى"، ففيه كناية عن معنى أنها فتاة ذات ترف لها ما يكفيها، ومن يخدمها، ويقوم بشؤونها، فهذه المعاني كلها تجمعت في ألفاظ وجيزة، اتخذت هيئة الكناية، ومن ثمّ كان للإيجاز حظّه في الكناية.
وتلك كانت أدوار الإيجاز التي مارسها في الأساليب البيانية في البلاغة، وكما رأينا تأثيره وأثره في البلاغة العربية.
خواص الإيجاز في الألفاظ والمعاني
خواص الإيجاز في الألفاظ
يعرف إيجاز القصر بأنه تقليل الألفاظ وتكثير المعاني، وإيجاز الحذف؛ كلام الذي أسقطت منه كلمة أو جملة أو أكثر من جملة، ثمّ تبيّنا أن الإيجاز له أثار جليّة في أساليب بيانية مختلفة، حيث يشكّل سرّ من أسرار جمال بلاغتها، فكان الاقتصاد في الألفاظ من أبرز خصائص الإيجاز، وكان ذلك عاملاً من العوامل التي جذبت ميول العرب نحو هذا الفن الكلامي، حيث عرف عن العرب أّنهم ينتقون من الألفاظ خيرها وأحسنها، وأنسبها لذوقهم الأصيل وفطرتهم السليمة، وطبيعتهم التي كانت تجعلهم يأنسون الاقتصار والاختصار.
¥