بل ويصل الأمر أنني عندما كنت أحدث أحد أصحابنا المفتونين بهذا "النظام" والخارجين من بلاد "التخلف" والقادمين إلى أمريكا يقودهم "الشعور بالنقص أولا وعقدة المغلوب" وأساله عن أمر غريب وجدته في بعض الطرق السريعة التي تمتد بين بعض الولايات وكيف أنني استغربت كون هذا الطريق مظلما وليس فيه إضاءة كافية، أجابني بقوله: "أكيد أن في الأمر سر لا نفهمه أنت ولا أنا، لأنهم هنا يفهمون كل شيء يفعلونه، ولو سألت لعلمت أن في الأمر حكمة".
قلت: سبحان الله، كأنك تتكلم بلغة: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون"؛ تسليم مطلق!
وقد يقول البعض، إن هذا غير مهم، فما الفائدة من معرفة هذا كله في حين تكون البلاد متخلفة كحال بلادنا؟ حيث نعرف معلومات كثيرة في حين نركب ذيل القافلة! أما هنا، فهم يهتمون فقط بحال يومهم وليلتهم وإنتاجهم، وهذا هو الأصل!
أقول: هذا هو بالضبط ما أتحدث عنه.
إن الناس هنا، لا يدركون السر وراء معظم ما يدور في حياتهم اليومية، إلا إنهم "يسلمون" الأمر للحكومة أو القيادة أو الدستور أو القانون؛ فهو تسليم من نوع آخر، على الرغم من كثير من الآثار السالبة والضارة في هذا القانون!
ولكن، دعونا لا ننسى أن نسبة قليلة، يظن البعض أنها لا تتجاوز العشرة بالمائة، هي التي تعلم ما يجري وتخطط له وتعيش كما لا يعيش عوام أهل هذا البلد، فهي فئة قليلة النوم، كثيرة العمل، مجتهدة غاية الاجتهاد، لمصلحة نفسها أولا ثم لمصلحة البلاد.
ثم يأتي هؤلاء القوم، سواء "الفاتنون" أو "المفتونون" ليحاولوا الوقوف وفهم كل سر وراء كل أمر من أوامر الإسلام!
"لماذا خمس صلوات وليس ست أو سبع أو عشر أو عشرون؟ " و"لماذا الزكاة؟ " و"لماذا الحج إلى الكعبة بالذات؟ " و"لماذا الطواف حول الكعبة عكس عقارب الساعة؟ " و"لماذا تقبيل الحجر الأسود؟ " ثم "لماذا هو أسود؟ " و"لماذا الذبح والأضاحي؟ " و ... ؟ و ... ؟ و ... ؟
كم هو مظلوم هذا الإسلام بين سوء "تسويق" أهله له، وبين جهل وتشكيك خصومه به. ولو أننا نحن المسلمين أولا قبل غيرنا "أسلمنا" واتبعنا، لوجدنا الإجابات تأتي تباعا كحقيقة واقعة ومشاعر وسلوك إيجابيين في حياتنا اليومية عوضا عن الإجابات "الجافة" التي يبحث عنها البعض وكأنهم يفككون "معادلة رياضية".
أذكر أن أحدهم سألني مرة: "ما شأن اليمين واليسار في الإسلام؟ لماذا الدخول باليمين والخروج باليسار في أحيان والدخول باليسار والخروج باليمين في أحيان أخرى؟ " وقبل أن أجيبه ببعض ما أعلم من مظاهر الحكمة في هذا الشأن تذكرت أن ذات الشخص هو الذي أبدى إعجابه مرة بنظام فتح الأبواب وإغلاقها في المحلات والأسواق والأماكن العامة في أمريكا، حيث إن في معظم الأماكن يكون فتح الباب إلى الخارج عند الدخول، أي بالسحب، وبالدفع عند الخروج؛ إلا في بعض أماكن ذوي الاحتياجات الخاصة أو الأماكن التي يكون هذا النظام فيها يصعب الأمر ولا يسهله! فقلت له: أنت تشكك في أمر اختياري في معظمه يأتيك من "إله" ثم تمتدح النظام ذاته مع إنه "إجباري" لأنه قدم من "إله آخر" أنت جعلته لك إلها؟!
وتذكرت في كل هذا كلمات لبعض أبيات في أغنية قديمة كنا نتغنى بها في بداية أيامنا:
كل من قد شذ عن دين الإله في ظلام دامس طول الحياه يطلب الأمن على درب المتاه
كلما سار بعيدا في دجاه عاد مفتونا بتأليه سواه
ولكن هذا لا يعني أن الأمر بالسوء الذي يظهر من خلال تركيزي على هذا الجانب السالب في الحياة الأمريكية
إن تسليم أهل أمريكا الأمر لقيادتهم وقوانينهم، بالرغم من كل هذا الكم من الجهل، كان من أهم أسباب النظام الذي أصبح عادة لديهم في هذا البلد؛ سواء في طابور السوق أو عند إشارة المرور أو في غرفة الانتظار في المصرف أو المشفى أو غيره أو في المصنع أو في مواضع الإدارة أو في مكاتب البريد أو في "المترو" أو "القطار" أو "الطائرة" أو ... إلخ. وهذا أمر لا ينكره إلا جاهل أو جاحد.
فما بالنا، إذا كان الأمر حول الإسلام، نأتي لنتوقف متشككين ومنشغلين بأسئلة لا طائل منها سوى إضاعة الوقت في معظم الأحيان؟!
هذا، مع عدم إغفال حقيقة غاية في الأهمية، وهي إن الإسلام يدعو إلى التفكر والفهم ومحاولة حل علامات الاستفهام في نفس الوقت الذي يقوم الأمر فيه على "الإسلام" وهو "إسلام" الأمر لله الذي يعلم الأمر من قبل ومن بعد.
¥