ولهذا كلِّه كان المبتدئ في تعلم هذا العلم الشريفِ لا يجدُ في أكثرِ كتبِ المصطلحِ ما يرفعُ عنه في ابتداء تعلمِه وحشتَه، أو يسدُّ له في أثنائه حاجتَه؛ وليس ذلك بغريب؛ فلقد جاء ذلك الطالبُ المبتدئ إلى هذا العلمِ العظيمِ القديمِ وهو غريبٌ عنه، بعيدٌ منه، ما عرف أبوابَه وتقسيماتِه، ولا أَلِفَ ألفاظَه ولا مصطلحاتِه، ولا مارس طرائقَ أربابِه ولا تكررتْ عليه أساليبُ أصحابِه؛ وزدْ على ذلك ما ورِثه عن أهلِ هذا العصر، من ركاكةٍ في اللغةِ، وبعدٍ عن رُتبِ الفصاحةِ والبلاغةِ والإيجازِ ونحو ذلك من خصائص القدماء الحافلة بمتانة البيان وبلاغة القول والجارية على طريقة الاختصار وطيِّ الألفاظ في أكثر مقاماتهم، وذلك الميراث لا ريبَ أضْعفَ منه – أعني من ذلك الطالب المبتدئ - آلةَ الفهم وأمرضَها.
فكيف إذا اجتمع إلى ذلك كلِّه أن لا يُوفَّقَ الطالبُ المشار إليه إلى ملازمةٍ أو مصاحبةٍ لمدرس عارفٍ بالفنِّ، يأخذ عنه البيانَ والتوجيه، ويستدله إلى مسالك الرشاد والسداد، ويستصرخه عند كل مضيق يلج فيه؛ ومعلوم أنه ليس كلُّ أحد يتهيأ له من يعلمه أصول هذا الفنِّ ومصطلحاتِه، ويشرحُ له غوامضَه ويَحلُّ له مشكلاتِه، ويكثر هذا في كثير من ديار المسلمين في هذه الأعصر وأعصرٍ سبقتها.
هذا ما يتعلق بالمبتدئين من طلبة علم الحديث.
وأما الذين هم فوقَ هؤلاءِ، وهم طالبو التبحرِ والتحرير وقاصدو التحقيقِ والتدقيقِ، فإنَّ كثيراً منهم لم يزالوا أولي حاجةٍ إلى من يقرّبُ لهم تفاصيلَ هذه التعريفاتِ، ويجمع لهم شتاتَها، ويفسرُ لهم مشكلاتِها، ويلتقط لهم من تحقيقاتِ أهلِ العلمِ في هذه المسائلِ أصحَّها وأرجحَها وأنفعَها وأجمعَها، ويستصفي لهم من بطون الكتب زبدتَها ويكفيهم مؤنتَها، ويطوي لهم الطريق، ويُسعفهم في مواطن الضيق، ويأخذ بإيديهم إلى جادّة التمحيص والتلخيص، ويشير لهم إلى مظانّ الجمع والتفريق.
ولا يخفى على عارفٍ بهذا الفنِّ أنَّ أكثرَ كتبِ المصطلحِ المتداولة في هذه الأعصر، لا تقدّمُ لطلّابهِ هذه المطالبَ المذكورة، ولا أكثرَها؛ أستثني من ذلك ما ظهر مؤخراً من بعض الدراسات الجادة الأصيلة النافعة، وعسى الله أن يجعلَ فيها خيراً كثيراً.
إن هذا البيان الذي أسلفتُه لهو برهان على أن من أهم وأولى المطالب العصرية في حياة طلبة العلم الشرعي اليوم: شرحُ اصطلاحاتِ أهل هذا الفن الخطير على وجه التحقيق والتفصيل والتدقيق والتحليلِ، وتبيينُ حقائقِها عندَهم، وإظهارُ فوارقِها بينَهم، وكشفُ عباراتِهم فيها وإشاراتِهم بها، واستنباطُ تعلقات مصطلحاتهم بمناهجهم ومسالكهم، والتنبيهُ على كل – أو معظم – ما وقع لهم في ذلك من التفرد والشذوذ والتنوع والتباين والخلاف، ونحو ذلك من أنواع التبحر في دراسة مصطلحات المحدثين.
ومن هنا نشأت رغبتي في أن أشارك إخوتي من الباحثين وطلبة علم الحديث فيما كتبوه في هذا العصر في هذا الباب من كتب وبحوث ومقالات علمية، لتحقيق معاني مصطلحات المحدثين وتقريبها إلى طلاب علمها؛ وإني لأرجو أن يتقبل الله مني هذا الكتاب بقبول حسن وأن ينفع به كثيراً، وأن يكون خطوة واسعة في هذا الدرب البعيد؛ وفكرةً نافعة في هذا الدرس الجديد أو شبهِ الجديد.
فإن قيل: لقد قال الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع في (تحرير علوم الحديث) (1/ 567 - 568) في أول مبحث عقده لتفسير طائفة من عبارات الجرح والتعديل: (هذا المبحث معقود لبيان دلالات الألفاظ التي ورد عن السلف من أئمة هذا الشأن بيانُ معانيها، أو كانت كثيرة الاستعمال شائعةً، يجدر التنبيه على بعض ما يتصل بها مما تكون له فائدةٌ لكشف أثر استعمالها.
ولم أقصد إلى حصر ألفاظ الجرح والتعديل، فهذا مما لا يتحمله هذا المقام، ولم أر تتبع ذلك استقصاء مما له كبير فائدة، وذلك أن منها ما يندر استعماله، بل فيها ما لم يُستعمل إلا في الراوي الواحد، ومنها الشائع المنتشر، وهذا غالبه بَيِّن في دلالته اللغوية، فالأصل أن تلك الألفاظ موضوعة على دلالاتها في كلام العرب، ومنها ما يعرف بالمقايسة بما أذكر.
فإن كانت للفظ دلالة خاصة، فالطريق إلى العلم بها أحد أمور ثلاثة:
الأول: بيانُ مستعمِلها أنه يعني بها كذا.
والثاني: دلالة قرينة في السياق على إرادة معنى معين.
¥