على أي حال كان فهو علم نافعٌ؛ وصنعة فاضلة؛ وصاحبه فاضلٌ، جَدِيْرٌ بِالحَفَاوَةِ وَالتَكْرِيْمِ. وهو أفضل العلوم التاريخية، حتى كاد أن يستقل عن علم التاريخ، وفَضُلَ لأجل حفظه لأنساب الناس حتى سار بالتاريخ على المهيعة الصحيحة الواضحة. < o:p>
وهو علم يدعو إلى التَفَكُّرِ في أصلِ النشأةِ، وإلى الاعتبار بالقرون الخالية لذا هو داعية سلام؛ يهذب النفس، ويصفي القلب من الغل والحقد والحسد متى صادف قريحةً جيدةً، فيتصفُ العالم به بمحبة الشعوب والتودد للبشرية كافة، إلا أن من ساءت نفسه فقد تصيبه إحدى آفات هذا العلم وهي: < o:p>
1. إما أن يتتبع به معايب الناس، ويجمع به المثالب، وهذا النوع يقال في صاحبه: عَيَّابة، نسابةٌ لا ذِمَّة له. < o:p>
2. وإما أن يتحول الذي يعاني من عقدة النقص إلى الشعوبية؛ نسبة إلى الشعب، أو يدعى نسباً ليس له، وهذا يقال له نسابة دعي كذاب. والشعوبي هو الذي يصدار حكماً مسبقاً على الشعوب نصرةً للشعب الذي هو منه، ويقال له: نسابة شُعُوبي. < o:p>
3. وإما أن يصاب صاحب النسب بالعُجْبِ فيؤديه ذلك إلى ترك التَّحَلِّي بالفضائل، أو إلى ترك التخلي عن الرذائل، أو إلى التحلي بالرذائل والتخلي عن الفضائل، وهذا اللئيم الرذيل. < o:p>
ولذا فإن العلم أي علم لا يبذل إلا لأهله، الذين صفت نِيَّاتُهم، وكانوا أهلاً لحمله؛ ولبذله؛ وامتهانه كمهنة، ولا يتعلم أحدٌ علماً أيّ علم كان إلا بعد اختبار ورياضة للنفس.< o:p>
6/10 واضع علم النسب< o:p>
أولاً: علم النسب من حيث أنه علم بروابط القرابة التي تكون بين فرد وفرد: < o:p>
الواضع له إنما هي الشرائع، حيث علَّم اللهُ آدم الأسماء كلها، وبيَّن حقيقة تلك العلاقات التي للأقرباء، وما يتعلق بها من أحكام، وجعل لكل نوع ووصف من القرابة اسماً، فسمَّى الوالدُ أباً، والوالدةُ أمَّاً، والصنو أخاً وأختاً، والولد ابناً أو بنتاً، وكذا كان الحال في الجَّدِ، والجَدَّة، والعَم، والعمة، والخال، والخالة، والحفدة .. بل حثت الشريعة على صلة تلك القرابات التي دعتها رحماً أيضاً، فبينت طرائق وصلها وأوجه رعاية مصالحها. وكانت مسألة حِفظ النسب من مقاصد الشرائع، ومن الضروريات الكليات الأمهات، كما جعلت الشرائع لكل مسمى من الأقرباء حكماً في باب التركات، وباب الأنكحة. وجعلت النسب أساس توزيع المواريث. وجاءت مسميات شتَّى في ألفاظ الشريعة للقرابة، بعضها كان مجملاً محتاج للبيان، وهذه الألفاظ هي: الذُّرِّية، والقربى، والنسل، والآل، والأهل، والعترة، والعقب، فكان ذلك تحريضاً للعقول كي تعمل.< o:p>
وهذا كله نجده لدى أهل الشرائع المنزلة، إذ نجد في العهد القديم تلك العناية البالغة بأنساب البشرية، وأنساب الأنبياء، وأنساب بني إسرائيل. وكان أحبار بني إسرائيل يشرحون تلك الأنساب ويُذَيِّلونها كلما استجدت بموازاة خط الزمان، حتى أدرجت تلك الشروح والتذييلات في التوراة نفسها، فحُفظت بدخولها حرام كتاب الله على رغم ما ألحقت به من عَوَرٍ وعيب.< o:p>
ثانياً: علم الأنساب من حيث أنه عِلمُ آلةٍ: < o:p>
وهذا القسم من وَضْعِ الإنسان، وضعه منذ أن أوجده الله، أسوةً بغيره من العلوم الإنسانية التي وضعها الإنسان لما شعر بالحاجة إليها؛ والحاجة أمُّ الاختراع، فالحاجة والضرورة دعتا إلى وضعه. ذلك عندما احتاج الإنسان إلى تفهُّم مجتمعه، واحتاج إلى معرفة الصلة التي بينه وبين مجتمعه كأفراد وجماعات، بل وإلى معرفة أصله ونشأته وسر وجوده. كل ذلك كان بوازع الغريزة المُلِحّ، فالإنسان مدني بالطبع؛ محبٌ للاجتماع؛ كَلِفٌ ببني جنسه، فعلم النسب انعكاسٌ للمدنية، ومرآةٌ للإنسانية، وترجمانٌ لفلسفة العلاقات الاجتماعية، يحُثُّه وَخْزُ الرَّحِمِ وتأنِيبُها من جهة؛ ودغدغتها ولِذَّتها من جهة أخرى، بل والمصلحة والمادة من جهة ثالثة.< o:p>
¥