تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[ولدي كم طال انتظاري!]

ـ[كرم مبارك]ــــــــ[14 - 06 - 2009, 11:04 م]ـ

إهداء إلى كل محروم من نعمة الولد

إلى كل من اشتاقت نفسه إلى كلمة بابا أ و ماما

إلى أصحاب دموع الليالي وآهات تهز الجبالِ

أهدي لكم هذه القصة الواقعية التي عايشت أحداثها بنفسي لمدة اثنتي عشر سنة

فلعلها تخفف عن وطأة ما تعانون

بل ربما ترسم لكم الأمل من جديد

أخوكم ومحبكم / كرم مبارك

ولدي كم طال انتظاري

كانت دموعي تشق طريقها كالعادة في شقوق اعتادت عليها وعرفت مجراها على وجنتي، وأنا مستلق على ظهري فوق سريري الحديدي في مساء يوم إجازة عن العمل المدرسي الشاق وحيداً بين جدران غرفة صغيرة في هذا البلد العربي الذي أعمل فيه بعيداً عن زوجتي وأهلي وأحبابي ..

آه كم أطلت النظر إلى هذا السقف المشقوق فوقي فبرغم الضوء الخافت إلا أني مازلت أرى بوضوح الشقوق التي حفظت مجراها والتي يتخللها قشرات لأصباغ قديمة تتساقط بين حين وآخر على سريري أما الجدران فمصبوغة بألوان الطيف المتداخلة مع بعضها وقد بدأ الملح يزحف إليها بفعل الرطوبة الدائمة حتى أصبح منظره مشمئزاً منفراً .. !!

ولكن ماذا أفعل فهكذا هي حياة العزّاب ..

فمنذ أن رجعت زوجتي إلى وطني قبل سنوات بأمر من الطبيب لكي تكون قريبة إلى تحقيق الأمل المنشود الذي يبدو أنه لن يأتي، أصبحت وحيداً في هذه الغرفة الوحيدة الكئيبة في هذه العمارة المتهالكة بعد أن تركت الشقة التي كنا نعيش فيها وانتقلت إلى أفقر حي في هذه المدينة

وها أنا أزورهم في كل إجازة صيف، في زيارة لا أتمناها بل أفضل الغربة عنها!!

كعادتي أنا مستلق على سريري والنوم يأبى إلا أن يعاندني ويجافي عيوني، ونفس التساؤل يراودني؟

هل من الممكن أن أرزق بمولود بعد خمس عشرة سنة من الزواج؟!

وخاصة أن زوجتي تعدت الأربعين سنة وكادت أن تلامس سن اليأس في الإنجاب

إنه هاجس يطاردني ليل نهار ككابوس جاثم على صدري

استبدلت وضعية نومي عل وعسى أن يذهب عني هذا الكابوس ولكن هيهات، فمن يعرفني يعرف أنه لم ينفك عني منذ السنة الثانية للزواج عندما تسلل هذا الهاجس إلى داخلي بعدما تزوج أخوتي وأصدقائي من بعد ثم أنجبوا

وهكذا تزوج أمة من القوم وأنجبوا أما أنا فقد كان مجرد عطف الناس علي وأسئلتهم المتكررة تقتلني عدة مرات قبل أن أعود إلى الحياة ثانية كجثة متحركة لا تمتلك من هذه الحياة سوى قلباً مازال فيه جبال من الأمل والرجاء

وقدمين تحملان هذه الجثة لتذهبان بها إلى العمل أو إلى المسجد ثم تعود

وعينين تزيدان من بؤسي عندما أنظر إلى الصغار يلعبون هنا وهناك وأسمع صرخاتهم وكأنها أعذب الألحان وأطربها، ولكم تمنيت هذه الصرخات في بيتي تفسد علي هدوئي القاتل وتصم أذني اللتين لم تسمع إلى الآن كلمة " أبي "

لم تكن زوجتي المسكينة بأقل حالاً مني ولكن عزاءها أنها مازالت بين الأهل والأحباب في بلدنا يخففون عنها ألمها ويجبرون مصابها وخاصة إن آمالنا قبل أكثر من سنة قد لامست السحب بعد أن بُلِّغْنا إنها حامل، ثم بعد أشهر تحطمت هذه الآمال وانكسرت على جبال اليأس فقد كان حملاً كاذباً!

هكذا يقال!!

حتى الحمل يكذب؟!!

أتراه يسخر من جراحنا؟!!

أم تراه يتلذذ بآهات البؤساء ودموعهم؟!

كنا قد تكيفنا مع مصيبتنا لفترة من الوقت وغضّينا الطرف عن الإنجاب فقد أصبح بعيد المنال

وسكت الناس عنا ورفعنا الراية البيضاء ورضينا بالقدر

ولكن هذا الحمل الكاذب جدد الأوجاع ونكّل في الجروح وفتح المواجع، حتى أصبحت هذه المآسي هاجساً يومياً مريعاً ...

تقتلني الوحدة هنا مع إنني من اختارها، فقد كانت أعين الأهل والجيران والأصدقاء كأنها سهام تدخل في جسدي لتنتزع روحي، ومن ثم تحولت النظرات إلى الهمز والغمز واللمز

فآثرتُ الهروب طلباً لراحة الجسد وأمان الألسن والنظرات وكذلك طلباً للمال الذي به يتجدد أمل الإنجاب وتفتح به أبواباً في مستشفيات في بلدي كانت مسدودة علينا نحن الفقراء، فإذا بي أواجه عدواً جديداً وقاتلاً شرساً بطيئاً آخر يسمى " الوحدة "

حتى بت – أستغفر الله - أخشى سماع الآية " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " أمام الناس، لأنني بكل بساطة كنت أنهار وتسبقني العبرات وأفقد رباطة جأشي مع إنني دائماً أحاول أن أبدو قوياً راضياً بقدر الله تعالى غير مهتماً إلا بما قدره الله لي

هكذا كنت أمام الناس وهكذا كنت أوحي لهم وبهذا كنت أتمتم، مع إنني في داخلي عكس ذلك تماماً

كانت كل قطعة في داخلي تبكي بل وتصرخ وتتساءل: أيأتي صباح يحمل إليّ خبراً سعيداً؟!

أم سيأتي مساءٌ يحمل لي أمل جميلاً؟؟

وكانت كأنها تجيب نفسها: بعد خمس عشرة سنة ألا تمل أو تكل يا رجل!!

انس يا محمود فليس لك نصيب في الذرية أبداً

كتب عليك أن تموت هكذا وينتهي أثرك

كتب عليك أن تعلم الأطفال وتحنو عليهم وتلاطفهم ولكن دون أن تسمع كلمة " بابا "!

ولم أنت قاسية في إجاباتك أيتها النفس؟

تلطفي بي، قولي شيئاً يسعدني أو اسكتي على الأقل!!

أو قولي لي اصبر وتجلد ولا تفقد الأمل

أو قولي انتظر فرج الله فإن عطاءه لا ولن ينقطع

قولي لي ما أجمل الصبر وما أجمل الثقة بالله العلي العظيم!

يتبع ....

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير