ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا , وإلا فهو واهب الأنفس والأموال , وهو مالك الأنفس والأموال. ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً ; وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع اللّه - وكرمه فقيده بعقوده وعهوده ; وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ; ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:. .
شر البهيمة. . (إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). .
كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء.
****************
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ; ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم , أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها. لتحويلها إلى حركة منظورة , لا إلى صورة متأملة. .
هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية. قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه , لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -[يعني ليلة العقبة]-:
اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ; وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ". قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال:
"الجنة " ". قالوا:
ربح البيع , ولا نقيل ولا نستقيل. .
هكذا. .
" ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل ". .
لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ; انتهى أمرها , وأمضي عقدها , ولم يعد إلى مرد من سبيل:" لا نقيل ولا نستقيل " فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ; والجنة: ثمن مقبوض لا موعود!
أليس الوعد من اللّه ? أليس اللّه هو المشتري ? أليس هو الذي وعد الثمن. وعداً قديماً في كل كتبه:
(وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن). .
(ومن أوفى بعهده من اللّه ?).
أجل! ومن أوفى بعهده من اللّه ?
*****************
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن. .
كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه. .
إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: (ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). .
(ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً). .
إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه. ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق!. .
بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق. .
إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده. ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق. .
بل لا بد أن يقطع عليه الطريق. .
ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله. ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً!. .
وما دام في "الأرض" كفر. وما دام في "الأرض" باطل. وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض , والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء. وإلا فليس بالإيمان: و " من مات ولم يغز , ولم يحدث نفسه بغزو , مات على شعبة من النفاق ". . . [رواه الإمام أحمد , وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي].
*****************
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن. كل مؤمن على الإطلاق. منذ كانت الرسل , ومنذ كان دين اللّه. .
ولكن الجهاد في سبيل اللّه ليس مجرد اندفاعة إلى القتال ; إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال. والمؤمنون الذين عقد اللّه معهم البيعة , والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
(التائبون. العابدون. الحامدون. السائحون. الراكعون الساجدون. الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. والحافظون لحدود الله). .
(التائبون). .
مما أسلفوا , العائدون إلى اللّه مستغفرين. والتوبة شعور بالندم على ما مضى , وتوجه إلى اللّه فيما بقي , وكف عن الذنب , وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك. فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح.
(العابدون). .
¥