وهذا البحث لا ينكر أن الأصل في البيان هو اللفظ , ولكنه ينبه على الوسائل الأخرى , ومن أعلاها الإشارة , فهي وإن لم تكن تستقل - غالباً - بالدلالة , فهي عون للفظ في البيان , وإذا توارى اللفظ لسبب أو لآخر برزت هي لتنوب عنه ,لأنها رديفته ,وتالية له في تصوير المراد.
يقول الجاحظ: [والإشارة واللفظ شريكان , ونعم العون هي له , ونعم الترجمان هي عنه , وما أكثر ما تنوب عن اللفظ , وما تُغني عن الخط ..... ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص , ولجهلوا هذا الباب ألبتة] (28).
أعضاء الإشارة:
يقول الجاحظ: [فأما الإشارة فباليد , وبالرأس , وبالعين , وبالحاجب , والمنكب ..
وإذا تباعد الشخصان فبالثوب , وبالسيف] (29).
لكن التراث حمل لنا أمثلة كثيرة كانت العناية فيها بإشارة العين , ولعل السر في ذلك أن العين هي أسرع الأعضاء حركة , والأكثر دلالة , حتى نقل ابن حزم "رحمه الله " في كتابه (طوق الحمامة) ما تعارف عليه الناس في بيئة من إشارات العين , وعقد لذلك باباً اسمه:
باب الإشارة بالعين.
قال فيه: ثم يتلو التعريض بالقبول - إذا وقع القبول والموافقة - الإشارة بلحظ العين , وإنه ليقوم في هذا المعنى المقام المحمود , ويبلغ المبلغ العجيب , ويقطع به ويتواصل , ويوعد ويهدد, ويقبض ويبسط , ويؤمر وينهى , وتضرب به الوعود , وينبه على الرقيب , ويضحك ويحزن , ويسأل ويجاب , ويمنع ويعطى.
ولكل واحد من هذه المعاني ضرب من هيئة اللحظ, لا يوقف على تحديده إلا بالرؤية .. وأنا واصف ما تيسر من هذه المعاني:
فالإشارة بمؤخر العين الواحدة: نهي عن الأمر.
وتفتيرها: إعلام بالقبول.
وإدامة نظرها: دليل على التوجع والأسف.
وكسر نظرها: آية الفرح.
والإشارة إلى إطباقها: دليل على التهديد.
وقلب الحدقة إلى جهة ما , ثم صرفها بسرعة: تنبيه على مشار إليه.
والإشارة الخلفية بمؤخر العين: سؤال.
وقلب الحدقة من وسط العين إلى المؤق بسرعة: شاهد المنع.
وترعيد الحدقتين من وسط العينين: نهي عام.
وسائر ذلك لايدرك إلا بالمشاهدة.
ثم يقول: والحواس الأربع أبواب إلى القلب ... والعين أبلغها] (30)
ونيابة العين عن اللفظ أمر ثابت لاشك فيه , ولعل السبب في تواري اللفظ, وبروز الإشارة هو الخوف من النطق , أو عجز المبين عن الكلام , أو غير ذلك من الأسباب , وانظر مثلاً إلى قول الشاعر:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها إشارة مذعور ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحباً وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
وقال آخر:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها وتعرف عيني ما به الوحي يرجع
وقال ثالث:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها من المحبة أو بغضاً إذا كانا
والعين تنطق والأفواه صامتة حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
إن كل هذه الشواهد دامغة على أن هناك للحواس لغة معروفة بين الناس , ولذلك تسمع من يقول " لغة العيون , ولغة الأيدي , ولغة الحواجب , ولغة الشفاه .... إلخ
وهذه اللغات تعارف عليها الناس , وإن لم يكن لها قواعد , أو مفردات , ولكن يبقى الأهم وهو أنها لغة مفهومة.
الإشارة أبعد بلاغا ً من الصوت:
لا شك أن مدى الصوت - مهما كانت قوة صاحبه – مدى محدود , ولو أن رجلا وقف ليحدث آخر عن بعد لما فهم منه شيئاً, وهنا يبرز دور الإشارة؛ لأنها تصل حيث لا يصل الصوت , وتحمل المراد حيث يعجز اللفظ عن حمله.
ولقد جاء في الأمثال العربية قولهم: " رفع عقيرته " وهو مثل يضرب لمن صاح صياحاً شديداً حتى أسمع القاصي والداني , وهذا المثل لا صوت فيه , لكن فيه الحركة.
ومورد هذا المثل: أن رجلاً قطعت رجله فبلغ به الألم مبلغة فرفعها على يديه , وأخذ يصيح حتى أسمع الجميع.
والعرب حين أرادت أن تعبر عن هذا الأمر تركت الصوت الذي صاح به الرجل؛ لأنه مهما علا فلن يصل إلى تصوير شدة الألم الذي أحاط به , ولكنهم التقطوا هذه الحركة التي فعلها الرجل , وهي رفع القدم المقطوع , وجعلوها مضرباً للمثل في شدة رفع الصوت.
وحكمة العرب جعلتها تفطن إلى أن رفع العقيرة أبلغ في تصوير علو الصوت من غيره , فكان التعبير هنا بالإشارة بدلاً من اللفظ , ولذلك يقول الجاحظ:
¥