[ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت , فهذا أيضاً باب تتقدم فيه الإشارة الصوت , والصوت هو آلة اللفظ , وهو الجوهر الذي يقوم به , وبه يوجد التأليف , ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً, ولا منثوراً إلا بظهور الصوت , ولا تكون الحروف كلاماً إلا بالتقطيع والتأليف] (32).
لكن مع هذا يقرر الجاحظ أن الإشارة من تمام اللفظ حيث يقول: [وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان مع الذي يكون مع الإشارة من الدل والشكل , والتفتل والتثني , واستدعاء الشهوة , وغير ذلك من الأمور] (33)
ولعل ذلك كان سبباً في عدم وصف الإشارة بالبلاغة عند العلماء؛ لأنها لا تستقل بالبيان لمن يستطيع الكلام , أو أن يكون في لغة غير لغة العرب [كما قيل للهندي: ما البلاغة؟
قال: وضوح الدلالة , وانتهاز الفرصة , وحسن الإشارة] (34).
هل الإشارة عند الكلام عيّ:
يرى البعض أن الإشارة مع الكلام دليل العي , والعجز عن امتلاك اللفظ المعبر , وأن البليغ هو الذي يمتلك ناصية البيان , فإذا حرك يده , أو التفت بوجهه, أو غمز بعينه , أو نحو ذلك فإنما عجز عن اللفظ فاستدعى غيره ليفصح به عن مكنون صدره , وكان بعضهم يفاخر بأنه عند بيانه لا يحرك من جسده ساكناً , ولا يشغل سامعه بغير لفظه , ولذلك عدوا الإشارة عيباً وخروجاً عن دائرة البيان العالي.
أما البلاغة التامة عندهم فهي أنْ تحمّل اللفظ كل ما تريد , وأنت ساكن الجوارح ... [قال أبو الأشعث: لقيت صحيفة هندية فإذا فيها: أول البلاغة اجتماع آلة البلاغة , وذلك أن يكون الخطيب رابط الجأش , ساكن الجوارح , قليل اللحظ متخيراًً اللفظ ...
وكان أبو شمر إذا نازع لم يحرك يديه , ولا منكبيه , ولم يقلب عينيه , ولم يحرك رأسه حتى كأن كلامه إنما يخرج من صدع صخرة.
وكان يقضي على صاحب الإشارة بالافتقار إلى ذلك , وبالعجز عن بلوغ إرادته , وكان يقول: ليس من المنطق أن نستعين عليه بغيره .... حتى كلّمه إبراهيم بن سيار النظام عند أيوب بن جعفر , فاضطره بالحجة , وبالزيادة في المسألة حتى حرك يديه , وحل حبوته , وحبا إليه حتى أخذ بيديه] (35)
وهكذا دلل الجاحظ على خطأ من ظن أن الإشارة عيّ , وأنها عجز عن الكلام , كما بين بعد ذلك أن من أكابر البلغاء من كان يُشير عند بيانه .. قال ثمامة بن الأشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس , قد جمع الهدوء والتمهل , والجزالة والحلاوة , وإفهاماً يغنيه عن الإعادة , ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة , كما استغنى عن الإعادة] (36)
ويقول الجاحظ أيضاً عن ثمامة بن الأشرس
[وما علمت أنه كان في زمانه قروي , ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة الحروف ’ ولا من سهولة المخرج مع السلامة عن التكلف ما كان بلغه , وكان لفظه في وزن إشارته , ومعناه في طبقة لفظه , ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك] (37).
ولعل كل هذا تبيان على أن الإشارة ليست عياً, ولا نقصاً في المبين , بل هي من أدواته التي لا يستغني عنها , وإذا كان هؤلاء الذين استشهد بهم الجاحظ قد أشاروا عند بيانهم , فحسبنا أ ن رسول الله " صلى الله عليه وسلم " كثيراً ما أشار عند بيانه , وسيأتي تفصيل ذلك لاحقا. ً
ومع أن الجاحظ قد فصل هذا التفصيل , وأعطى الإشارة حقها في عالم البيان , وجعلها إحدى وسائله , بل هي النائبة عن اللفظ , والكاشفة عن مقداره , والمؤكدة له , والمعربة عن المعاني الخاصة , أو خاصة الخاصة ...
أقول: على الرغم من هذا كله إلا أن اغلب من جاء بعده من علماء البيان وضعوا عنها هذا القدر , وجردوها من هذه المكانة , وأعادوها إلى اللفظ لتدور في فلكه , وصار مستقى دلالة الإشارة مأخوذاً من اللفظ , فتاهت الدلالة وانمحت معالمها , ولم نعد نفرق بينها وبين غيرها من الدلالات.
وأول من يلقانا على هذا الدرب صاحب أول أثر نقدي علمي مشهور: قدامة بن جعفر.
المبحث الثاني: الإشارة بعد الجاحظ:
أولاً: الإشارة عند قدامة بن جعفر ت 327 هـ:
لقد تحدث قدامه عن ائتلاف اللفظ والمعني ,وجعل من هذه الأنواع الإشارة، ثم عرفها فقال:
[الإشارة: أن يكون اللفظ القليل مشتملاً علي معاني كثيرة بإيماء إليها، أو لمحة تدل عليها ,
¥