كما قال بعضهم، وقد وصف البلاغة فقال: [هي لمحة دالة] (38) وهذا التعريف يحوي ما يلي:
أولاً: أن مصدر الدلالة اللفظ وليس الإشارة - كما يري -.
ثانياً: أن دلالة هذا اللفظ القليل على المعنى دلالة اشتمال , أعني: أنها دلالة مفهومة, وليست منطوقة.
ثالثاً أن الإشارة تقوم بمساعدة اللفظ في تكوين الدلالة , لكنه عند استشهاده عمد إلى اللفظ ليأخذ منه دلالة الإشارة , وابتعد عن الحركة والإيحاء , ويقول مستشهداً على الإشارة:
فإن تهلك شنوءة أو تبدل فسيري إن في غسان خالا
لعزهم عززت وإن يذلوا فذلهم أنالك ما أنالا
ثم قال: [فينبه هذا الشعر على أن ألفاظه مع قصرها قد أشير بها إلى معان طوال , فمن ذلك: " تهلك أو تبدل " ... ومنه قوله: " إن في غسان خالا " ..... ومنه ما تحته معان كثيرة , وشرح , وهو قوله " أنالك ما أنالا ".] (39)
وقدامة بهذا التعليق يبعد عن دور الإشارة الحقيقية في تكوين المعنى , بل إن الشعر الذي استشهد به لا إشارة فيه , ولا ما يدل عليها من قريب أو بعيد , اللهم إلا إذا عددنا الكناية والرمز من قبيل الإشارة.
وظل قدامة -رحمه الله -يتابع شواهده , وجميعها تدور في فلك الإيجاز , أو الكناية , أو التمثيل , ولعل الذي دفع به إلى هذا العدول أنه معني ببيان دروب المعاني الشعرية , من حيث مساواتها مع اللفظ أو زيادتها عليه.
فلقد جعل الإشارة نوعاً من أنواع ائتلاف اللفظ مع المعنى ,وهذا الائتلاف قد يكون اللفظ فيه مساويا , أو زائداً عليه , كما هو الحال في باب الإشارة , وهذا يعني أنها عنده قسيم للمساواة.
ًومع أنه عند التعريف جعل مصدر ومستقى هذه الزيادة من الإشارة والإيماء واللمحة الدالة , إلا أنه عند الشرح , والتفصيل أعرض عن هذه اللمحة , وذاك الإيماء , وحصر شواهده في اللفظ, مما أحدث بعده لبساً ففُهمت الإشارة مرة على أنها نتاج الحركة , ومرة أخرى على أنها نتاج اللفظ.
*******
دلالة الإشارة عند ابن رشيق: ت 456 هـ
عقد ابن رشيق القيرواني في كتابة العمدة بابا كبيرا للإشارة بدأ بإبراز جمال هذه الدلالة فقال:
[والإشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة، تدل علي بعد المرمي , وفرط المقدرة،
وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملا، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه فمن ذلك قول زهير
فإني لو لقيتك واتجهنا لكان لكل منكرة كفاء
فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه , وهذا عند قدامة أفضل بيت في الإشارة] (40).
ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من إغراب وبعد عن دلالة الإشارة الحقيقية , حتى بيت الشعر الذي استشهد به.
وكأن دلالة الإشارة هي كل ما يحمله الكلام من معان , سواء جاء في صورة كناية , أو تشبيه , أو استعارة ....
وهذا بلا شك عجيب , لأن كل دلالة في علم البلاغة لها مصطلح متفق عليه , أما أن أجعل هذه الدلالات كلها دلالات إشارية فهذا بعيد.
والأصل: أن دلالة الإشارة تستقى من حركة اليد , أو العين , أو الرأس , أو سائر الجسد سواء صاحبت اللفظ , أم جاءت وحدها , وأنا هنا أتحث عن دلالة الإشارة في علم البلاغة , لأن هناك في علم أصول الفقه مفهوماً آخر لدلالة الإشارة.
وأعود إلى ابن رشيق حيث يقول عن البيت السابق: [فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه]
ثم حكم على هذا البيت بأنه أفضل بيت في الإشارة , مع أن ابن قدامة لم يعلق على هذا البيت بقليل , ولا بكثير.
وفي بيت آخر يقول الشاعر فيه:
جعلت يدي وشاحاً له وبعض الفوارس لا يعتنق
يقول ابن رشيق: [وهذا النوع من الشعر هو الوحي عندهم ... ] (41)
لقد جعل ابن رشيق كل ما يستعذبه من الشعر , وكل ما لطف , ودق في المعنى , جعله من باب الإشارة؛ ولأجل هذا فتح الباب لكل ألوان البيان.
فهذه إشارة على معنى التشبيه , ويمثل لها بقول الشاعر:
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
وهذه إشارة على معنى الاستفهام ,ويمثل لها بقول الله تعالى (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة ا:2)
وهذه إشارة على معنى التعريض كقوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان:49).,
وإشارة على معنى الكناية , وإشارة على معنى التمثيل , وإشارة على معنى الرمز , وأخرى على معنى اللحن ..... إلخ
¥