وكذا قوله لمن أعرض عن الشعر بسبب وزنه أن ينظر إلي ما فيه من [حسن تمثيل، واستعارة، وإلي التلويح والإشارة، وإلي صنعة تعمد إلي معني الخسيس فتشرفه ... ] (46) وكذا كلامه عن المزية، وأنها من حيز المعاني حيث يقول: [وينبغي أن تأخذ الآن في تفصيل أمر المزية وبيان الجهات التي منها تعرض، وأنه لمرام صعب، ومطلب عسير، ولولا أنه علي ذلك لما وجدت الناس بين منكر من أصله , متخيل له علي غير وجهه ومعتقد أنه باب لا تقوي عليه العبارة. ولا يملك فيه إلا الإشارة] (47).
ولقد سار الإمام - رحمه الله - علي هذا الضرب. يبين دقائق البيان، ووجوه الإعجاز في نظم الكلام، وهذه الغاية جعلته لايعتني إلا بها.
وهذا يعني إن الإمام , مع أنه أقر، وذكر الإشارة في كلامه، لكنه شغل عنها بغايته التي عقد كتابيه - الدلائل والإسرار - عليها , وهي بيان وجه الإعجاز في القرآن الكريم.
الإشارة عند ابن أبي الإصبع (تـ 654 هـ)
عقد ابن أبي الإصبع بابا للإشارة ونقل نقلا عن غيره، ولكنه زاد في هذه الدلالة زيادات جليلة جعلته يمثل مرحلة من مراحل تطور دلالة الإشارة.
فلقد نقل عن [هند بن أبي هالة في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه" كان يشير بكفه كلها , وإذا تعجب قلبها , وإذا حدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى ".
فوصفه ببلاغة اليد , كما وصفه ببلاغة اللسان , يعني أنه يشير بيده في الموضع الذي تكون فيه الإشارة أولى من العبارة , وهذا حذق لمواضع المخاطبات] (48).
ثم راح ابن أبي الإصبع يشرح هذا , فقال: [يشير بكفه كلها. أي: يُفهم بها المخاطب كل ما أراده بسهولة , فإن الإشارة ببعض الكف تصعب , وبكل الكف تسهل.
فأعلمنا هذا الوصف أنه صلى الله عليه وسلم كان سهل الإشارة كما كان سهل العبارة.
" فإذا تعجب بها قلبها"
يعني: أنه أتى بها على وجهها إذا كان المعنى الذي يشير إليه على وجهه ليس فيه ما يستغرب فيعجب منه , فإن الشيء المعجب إنما يكون معجباً لكونه غير معهود.
فكأن الأمر فيه قد قُلب لمخالفته المعهود، فلذلك يجعل قلب يده في وقت الإشارة إشارة إلى أن هذا الأمر قد جاء على خلاف المعهود , ولذلك تعجب منه.
وقوله: " وإذا تحدث اتصل بها "
يعني: اتصل حديثه بها , فيكون المعنى متصلاً , والمفهوم بالعبارة والإشارة متلاحماً , آخذ بعضه بحجز بعض.
وقوله: " فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى "
يعني: أنه عند انتهاء إشارته يضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى , مشيراً إلى أنه ختم إشارته , ومعناه , ولذلك عطف هذه الجملة بالفاء , ولم يأت بها معطوفةً بالواو , كما أتى بما قبلها من الجمل , لكونها آخر إشارته.
والواو لكونها غير مقتضية للترتيب يجوز أن يكون المتأخر بها متقدماً ولا كذلك الفاء , إذ لا بد أن يكون المعطوف بها متأخراً؛ لكونها موضوعة للتعقيب.
وأما اقتصاره على باطن الإبهام دون ظاهرها "
فمعناه: أنه جعل آخر الإشارة متصلاً بأول العبارة اتصالاً متلائماً كملاءمة باطن الكف التي ضرب بها باطن الإبهام التي ضرب عليها , وهذا أيضاً من بلاغة الواصف. (49)
وهذا الكلام كلام نفيس لأنه يضع أصولاً لقواعد هذه الدلالة وهذه الأصول لابد من تعليمها حتى يستطيع كل مبين أن يخرج مراده ويختار له ما يناسبه من ألوان البيان لفظا كان أو إشارة ...
ومع أن هذا الكلام صريح في قدره الإشارة علي حمل المعاني، وتكوين الدلالات، إلا أن العجيب أن ابن أبي الإصبع حين اسشهد أعرض عن كلامه، وأتي بشواهد بعيدة عما قال ...
شواهد كل ما فيها أن اللفظ القليل يحمل المعاني الكثير، وهذا أشبه بالانفصام بين القاعدة والمثال، وهو ما وقع فيه الكثيرون.
ولعل السبب في ذلك، أن علماء البلاغة حين يكتبون في العلم يأتون في كلامهم وقواعدهم الجديد، وحاول كل منهم أن يضيف إلي كلام السابقين شيئا فإذا جاءوا إلي التمثيل أخذوا من السابقين شواهدهم وسطورها، ولذلك تجد أغلب الشعر المستشهد به في دلالة الإشارات واحدا، إلا ما نذر.
الإشارة عند ابن حجة الحموي:
¥