لقد إضاف ابن حجة الحموي إلى هذه الدلالة إضافة ينبغي ذكرها هنا , حيث قال: [هذا النوع " أعني الإشارة " مما فرعه قدامة من ائتلاف اللفظ مع المعنى , وشرح ذلك فقال: هو أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على المعنى الكثير , بإيحاء ولمحة تدل عليه , كما قيل في صفة البلاغة: هي لمحة دالة.
وتلخيص ذلك: أنه إشارة المتكلم إلى المعاني الكثيرة بلفظ يشبه لقلته واختصاره إشارة اليد , فإن المشير بيده يشير دفعة واحدة إلى أشياء لو عبر عنها بلفظ لاحتاج إلى ألفاظ كثيرة.
ولابد في الإشارة من اعتبار صحة الدلالة , وحسن البيان مع الاختصار؛ لأن المشير بيده إن لم يفهم المتلقي معنى إشارته فإشارته معدودة من العبث , وكان النبي صلى الله عليه وسلم سهل الإشارة كما كان سهل العبارة , وهذا ضرب من البلاغة يمتدح به] (50)
وفي كلام ابن حجة تنبيهات ينبغي الوقوف عليها , فهي مرحلة من مراحل تطور هذه الدلالة , ومنها:
أولاً: أن دلالة الإشارة مع كونها من اللفظ لكنها سميت كذلك تشبيهاً بحركة اليد التي تفهم منها معان كثيرة دفعة واحدة , فكذلك اللفظ إذا فهم منه معان كثيرة دفعة واحدة كان فيه دلالة إشارة كما يقول.
ثانياً: يشترط ابن حجة صحة هذه الدلالات حتى لا يدعي كل أحد أن في اللفظ دلالة كذا , واللفظ لا يحتملها.
يقول: [فلابد في الإشارة من اعتبار الصحة , وحسن البيان مع الاختصار] (51).
ثالثاً: أن من الإشارة ما يوصف بالسهولة , ومنها ما يوصف بالتعقيد , وسهولة الإشارة تعني: وصول المراد إلى القلب دون وسائط.
ومع كل هذا إلا أنك تراه يقول: [والإشارة قسمان: قسم للسان , وقسم لليد] (51) لكنك إن بحثت عن القسم الذي لليد فلن تجد له شاهداً في كتابه, فجميع شواهده في دلالة اللفظ القليل على المعنى الكثير, وهذا بلا شك دلالة إيجاز وليست دلالة إشارة باليد كما نص هو" رحمه الله ".
الإشارة عند الفقهاء:
حظيت دلالة الإشارة لدى الفقهاء بعناية فائقة , وبنوا عليها أحكاماً, حتى وإن وردت وحدها دون مصاحبة اللفظ , مما يعني إمكانية استقلالها بالدلالة , ومن ذلك ما جاء في كثير من أبواب الفقه ,يقول المهلب: [قد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام , مثل قوله " صلى الله عليه وسلم ": بعثت أنا والساعة كهاتين (52) فعرّف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة.
وفي اجتماع العقول على أن العِيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام] (53).
ومن الأفكار التي بنيت على الإشارة عند الفقهاء:
أنهم [كرهوا للرجل التكلم والإمام يخطب , وإن تكلم غيره فلا ينكر عليه إلا بالإشارة] (54)
[واشترطوا لحل الذبيحة شروطا , منهاً:
أن يقول باسم الله عند حركة يده بالذبح ...... فإن كان الذابح أخرس أومأ برأسه إلى السماء , وأشار إشارة تدل على التسمية , بحيث يفهم منها أنه أراد التسمية , وهذا كاف في حل ذبيحة الأخرس.
وفي حكم البدء بالسلام قالوا:
وإذا قال: السلام عليك , وأشار على محمد بدون تسميته فرد أحد الحاضرين , فإن الفرض يسقط؛ لأن الإشارة تحتمل أن تكون لهم جميعاً , وكذا إذا قال: السلام عليك , بدون إشارة , فإنه إذا رد واحد سقط عن الباقين؛ لأنه يصح أن يخاطب الجماعة بخطاب الواحد .....
وفي مبحث اليمين قالوا:
وإذا حلف ألا يأكل هذا وأشار إلى قمح بدون أن يذكره , فإنه يحنث إذا أكل منه على هيئته, أو أكل من دقيقه , أو خبزه , أو أي شيء يتولد منه ...
وفي كتاب النكاح قالوا:
وإذا تزوجها على (هذا الفرس ,أو هذا الفرس) وأشار لها إلى فرسين , وكان أحدهما أقل من الآخر حكم بمهر المثل.
وفي باب القذف قالوا:
إن القذف لا يصح إلا بالتصريح ....
قال ابن القصار: وهذا باطل , وقد نص مالك على أن شهادة الأخرس مقبولة , إذا فهمت
إشارته , وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة ... ] (55)
أما علماء الأصول , فإنهم ذكروا من أنواع الدلالات: دلالة الإشارة؛ لكنهم لم يخرجوا بها عن التركيب ونظمه , وجعلوها ثمرة للفظ وإيماءاته , فقالوا عنها: إنها [دلالة النظم على معنى لم يسق لأجله , لعدم قصد المتكلم له في نفسه , لكن السامع يعلمه بالتأمل في معنى النظم من غير زيادة عليه ولا نقصان] (56)
¥