تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[وجوهر هذه الدلالة عندهم ماثل في أمرين:

أنها دلالة نظمية , وأنها دلالة غير مقصودة للمتكلم بهذا النظم.

ووجه تسمية هذه الدلالة إشارة عندهم أن المتكلم قد يفهم بإشارته , وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة] (57)

وكل ذلك كما ترى متولد عن اللفظ , ولا علاقة له بدلالة الحركة , وإن كان الأصل في اصطلاح لفظ الإشارة هو الحركة , لكنهم عند تحديد الدلالة نظروا إلى اللفظ , وأغفلوا الحركة المصاحبة له.

ولذلك يرى بعضهم أنها دلالة التزاميه تستقى من اللفظ غير الصريح , ويرى آخرون أنها تفهم من اللفظ , ولا يدل اللفظ عليها , ومن ذلك مثلاً ما يقوله الجصاص في أحكام القرآن حول قول الله تعالى: " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " يقول: [يؤخذ منه بطريق الإشارة: أن الفقير قد يملك بعض ما يغنيه , وليس هو الذي لا يملك البتة, فإنه لا يحسبه الجاهل به غنياً من أجل تعففه إلا إذا كان ظاهر حاله ساتراً حقيقته , وذلك لا يكون مع العدم المحض] (58).

[ويؤخذ منه أيضاً بطريق الإشارة أن على الفقير ألا يظهر حاله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً , فقد جاءت الآية في معرض المدح.

ويؤخذ منه أيضاً: أن على أهل الفضل أن ينقبوا عن أولئك المتعففين , ويعينوهم على استتارهم ببذل ما يحفظ ماء الحياء في وجوههم] (59).

وكل هذه المعانى مرتشفه من اللفظ وسياقه،لكن لا يوجد ذكر هنا لحركه أو إشارة، مما يعني أن الأصوليين ـ أيضاً عدلوا بالإشارة عن حقيقتها، وعمدوا إلى اللفظ وإشارته أي: دلالته.

ولم تقف أهمية هذه الدلالة عند الفقهاء والبلاغيين فقط، بل إن الناس كانوا يتعارفون علي إشارات فيما بينهم ومن ذلك ما ذكره شمس الدين العظيم أبادي في شرحه لسنن أبي داود.

يقول: [جاء عن ابن سيرين أنه قال:

كانوا يستأذنون الإمام - وهو علي المنبر - فلما كان زياد , وكثر ذلك بينهم، قال: من وضع يده علي أنفه فهو إذنه] (60).

وهذا اصطلاح بين هؤلاء فقط، مما يعني أن الجميع كان يأوي إلي الإشارة , إن صرفه صارف عن اللفظ.

وقفه علي ما سبق.

هذا مما سطّرهُ علماؤنا عن الإشارة، ولقد تبين لي بعض الأمور أوجزها فيما يلي:

أولاً: اتفق الجميع على أن الأصل في البيان هو اللفظ , ولم يختلفوا حول الإشارة , وكونها ضرباً من البيان أيضاً.

ثانياً: أن أول من كشف اللثام عن هذه الدلالة , وفصل غوامضها الجاحظ , ومع ذلك لم يسر خلفه الباقون بل حارت الدلالة عندهم وضوحاً وغموضاً, وإن كان لهم إضافات لا تنكر.

ثالثاً: أن للإشارة دلائل واضحة وناطقة في بيان الوحي , كما أن لها دلائل في بيان العرب قديماً شعراً ونثراً.

رابعاً: أنهم اختلفوا في وصف الإشارة بالبلاغة , فمنهم من وصفها بالبلاغة كابن المقفع , وابن حجة الحموي , وابن أبي الإصبع , ومنهم من قصر البلاغة على اللفظ.

خامساً: أن دلالة الإشارة مركوزة في فطرة الإنسان , وعليه لا يجوز وصف البليغ إذا أشار بالقصور , أو العيب , أو العي.

سادساً: لابد في الإشارة من موافقة اللفظ حتى يسهل المعنى على المتلقي , أما إذا كان اللفظ في جانب , والإشارة في جانب مغاير أدى الأمر إلى التعقيد المذموم.

سابعاً: إن حقل البيان ما زال في حاجة ماسة إلى الكشف عن وسائل البيان الأخرى غير اللفظ

ثامناً: للإشارة مقامات لا يستطيع اللفظ القيام بها , كالبيان للبعيد , وبيان الخائف , والبيان عن أمور لا لفظ لها في العربية , كما في بعض الأصوات.

تاسعاً: أن لكل حركة دلالة ينبغي تمييزها عن غيرها , وتحديد دورها في تكوين المراد.

ووددت لو تم اصطناع معجم لدلالة الإشارات في بيان السابقين , وعلى رأس ذلك بيان الوحي , ثم بيان العرب القديم.

ولقد ألمح على مثل ذلك ابن حزم حيث قال::

الإشارة بمؤخرة العين الواحدة , تعني: النهي.

وتقصيرها: إعلام بالقبول.

وإدامة نظرها: دليل على التوجع.

وقبض اليد يعني: القوة.

وغير ذلك كثير في التراث , ومن الممكن جمعه , ووضعه في معجم يستعين به كل مبين.

الفصل الثاني

دلالة الإشارة في بيان النبي

" صلى الله عليه وسلم "

دراسة في صحيح مسلم


تقديم
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير