أخيه , حتى ارتاب في الأمر , ودخله ما دخله من الشك في عاقبة أخيه , ومن هنا كان من الأولى إزالة هذا الشك من عنده , ومن عند جميع الصحابة , فأكد النبي صلى الله عليه وسلم كلامه بالإشارة , لتكون الإشارة توكيداً لا يبقى معه لبس , ولا غموض في فوز أخي سلمة بالجنة , والشهادة في سبيل الله تعالى.
فالآذان ستظل تذكر كلام النبي , والعيون كذلك ستظل ترى هذه الإشارة المصاحبة للفظ لتكون بياناً توكيدياً لها.
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق , حتى تكون منهم بمقدار ميل, قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض , أم الميل الذي تكتحل به العين؟
قال: " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق , فمنهم من يكون إلى كعبيه , ومنهم من يكون إلى ركبتيه , ومنهم من يكون إلى حقويه , ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً "
قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه. (63)
فقوله صلى الله عليه وسلم " ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً, يفهم منه أن العرق قد وصل إلى الفم , هذا منطوق العبارة , والذهن يتصور ذلك , لا شك ,.
إذن , ما الإضافة التي أضافها رسول الله إلى المعنى بإشارته؟ وهل قصّر اللفظ عن أداء المراد حتى تأتي الإشارة؟
إن الإضافة التي أتت بها الإشارة , كما أفهم , هي استحضار الصورة لتشاهدها العيون , فوضعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يده على فيه نقل المعنى من عالم الغيب إلى عالم الشهادة , وهذا من أرفع صور التوكيد فالناس الآن لا يسمعون الكلام , بل يرون صورة هذا الرجل الذي ألجمه عرقه , يرونه الآن أمام عيونهم , وهو يحاول النجاة , أو التخلص من هذا العرق بعد أن وصل إلى فيه , وأخذ بخناقه , ويكاد يسد أنفاسه , هكذا ينظر السامع إلى المعنى بعد إشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما اصطفاء هذا الصنف , أعني: الذي يلجمه العرق , لتصويره دون غيره ممن وصل العرق إلى كعبيه , أو ركبتيه ... الخ , فلأنه الأشد كرباً , والمقام مقام ترهيب من يوم القيامة , والسياق سياق زجر , فالشمس تدنو من الرؤوس , والكل في ضيق ووجل , فكان الأبلغ استخلاص أشد الصور نفوراً فكان من يلجمه العرق إلجاماً هو الأليق بالمقام فوقع التصوير بالإشارة عليه , لأن من رأى ليس كمن سمع.
التعريف بالإشارة
تحدث البلاغيون عن التعريف باسم الإشارة , وجعلوا لذلك أغراضاً كثيرة , منها: تمييز المشار إليه أكمل تمييز , ومنها المدح , أو الذم , أو لبيان حاله في القرب أو البعد , أو التوسط , وقد يكون التعريف باسم الإشارة غرضه التنبيه على ما سبق ذكره في الكلام .. وغير ذلك.
ولقد بين العلماء أن التعريف بالإشارة يرقى إلى مرتبة عالية في مجال وسائل التعريف , وذلك بسبب مصاحبة الإشارة الحسية للفظ المسموع.
يقول السبكي في عروس الأفراح: [يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة لأحد أمور:
الأول: أن يقصد تميزه لإحضاره في ذهن السامع حساً ... فالإشارة أكمل ما يكون من التمييز كقول ابن الرومي:
هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه من نسل شيبان بين الضال والعلم (64)
انظر إلى قوله: " لإحضاره في ذهن السامع حساً " فهذا يعني مصاحبة الحركة للفظ.
ويقول الدسوقي في حاشيته على السعد: [والتمييز الأكمل هو ما كان بالعين والقلب , فإنه لا تمييز أكمل منه , ولا يحصل ذلك التمييز إلا باسم الإشارة ....
ودلالة اسم الإشارة على أكملية التمييز لأن معه إشارة حسية , ولا يتأتى معه اشتباه ..
واسم الإشارة إذا كان المشار إليه حاضراً محسوساً للسامع بحاسة البصر كان أقوي.] (65)
وكل هذا يدل على قدرة الإشارة الحسية على حمل المعاني , بل إن أسماء الإشارة لا تتخيل إلا إذا صاحبتها حركات حسية , يلفت بها المتكلم نظر السامع إلى ما يريد.
ومن هذا الباب ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: [كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ...
قال: قلت: من هم يا رسول الله؟
فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً , وفينا سلمان الفارسي , فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان , ثم قال: " لو كان الإيمان عند الثريا
لناله رجال من هؤلاء "] (66)
¥