فقوله " لناله رجال من هؤلاء " صاحبه وضع يده على سلمان الفارسي , حتى يكون التمييز في أكمل صورة , وبخاصة أن السائل صار في شوق إلى معرفة هذه الطائفة التي تلحق بالسابقين الأولين.
ووضع اليد على سيدنا سلمان قصد به رجال من أهل فارس , وهذا يفسره رواية أبي هريرة في صحيح مسلم: " لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من فارس حتى يتناولوه "
وليس المقصود اختصاص أهل فارس بسبب فارسيتهم , وإنما المقصود ما يتحلون به من طاعة والتزام.
ولقد نقل ابن حجر بعضاً مما جاء في أسباب نيل هؤلاء هذه الدرجة , ومنها:
ما جاء زيادةً في إحدى الروايات " برقة قلوبهم " ,
وفي أخرى " يتبعون سنتي , ويكثرون الصلاة علي " (67).
وعلى هذا فالإشارة الحسية تلفت انتباه الناس إلى صفات هذه الطائفة , التي تتحلى بالإيمان , ولو كان عند الثريا.
ووضع اليد على سيدنا سلمان يعني أنه كان متحلياً بهذه الصفات فجاءت الإشارة الحسية لينظر الجميع إليه , وإلى صفاته فيكون ذلك دافعاً إلى التشبه به.
*****
دلالة الإشارة على المحذوف
قد تأتي الإشارة لتدل على لفظ محذوف لكنه مراد في المعنى , وعدم التصريح بهذا اللفظ له أسباب كثيرة: مثل: الاختصار , والاحتراز عن العبث بناءً على الظاهر , أو ضيق المقام ... الخ (68).
ولا شك أن للحذف مكانة عالية في البلاغة.
ويكفي هنا ما ذكره الإمام عبد القهر من أن الحذف [باب رقيق المسلك لطيف المأخذ،عجيب الأمر شبيه بالسحر , فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر , والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن] (69).
وقد يعمد المبين إلي الإيماء , وإلي المحذوف بإشارته، وعندها تكون هذه الإشارة هي الدليل علي المحذوف فتكسبه وضوحا وبيانا قد لا يتوفران في ذكره.
ومن ذلك ما رواه سيدنا عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أسجد علي سبعة أعظم. الجبهة وأشار بيده علي أنفه واليدين، والرجلين، وأطراف القدمين، ولا تكفت الثياب ولا الشعر (70).
والحديث حذف منه لفظ " الأنف وإن كان أشير إليه باليد , ذلك لأن الأصل في الرأس الجبهة، فالسجود عليها هو الفرض ويتبع ذلك الأنف.
وكان التصريح بالجبهة، وحذف الأنف يعني أن كلا منهما ليسا علي درجة واحدة في السجود. [قال القرطبي: هذا يدل علي أن الجبهة الأصل في السجود والأنف تبع .... وقال ابن دقيق العيد: قيل: معناه أنهما جعلا كعضو واحد، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية، وقال: وفيه نظر: لأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود علي الأنف، كما يكتفي بالسجود علي بعض الجبهة ..... والحق: أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة، وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد فذاك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر] (71).
وقد تفيد الإشارة أن الجبهة والأنف ملتصقين فهما عضو واحد كما جاء عند النسائي:
"ووضع يده علي جبهته وأمرها علي الأنف, قال: هذا واحد] (72).
وأري أن حذف لفظ " الأنف " هنا لا يعني أنها تالية للجبهة وتابعة لها في الأهمية، بل إن الإشارة إلي الأنف يعني كما أري أهمية السجود عليها لدرجة قد تفوق غيرها، ولذلك وضع البخاري (رحمه الله) هذا الحديث تحت عنوان " باب السجود علي الأنف والطين ".
ذلك لأن السجود علي الأنف أقرب إلي الذل والانكسار والخشوع من غيره، ويعلق ابن حجر رحمه الله علي عنوان البخاري فيقول:
" كأن البخاري يشير إلي تأكد أمر السجود علي الأنف , بأنه لم يترك مع وجود عذر الطين الذي أثر فبه، ولا حجة فيه لمن استدل به علي جواز الاكتفاء بالأنف، لأنه في سياقه أنه سجد علي جبهته وأرنبته، فوضح انه إنما قصد بالترجمة ما قدمناه، وهو دال علي وجوب السجود عليهما، ولولا ذلك لصانهما عن لوث الطين " (73).
وعليه فإن الحذف هنا لا يقل درجة عن الذكر لأن الإشارة نبهت على المحذوف، وزادته إيضاحاً فوق اللفظ.
ومن هذا الباب أيضاً ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال " اشتكي سعد ابن عبادة شكوي له، فأتي رسول الله صلي الله عليه وسلم يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الله ابن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشيه.
¥