تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وغير ذلك كثير , ولقد كانت الإشارة وافية بجميع هذه الأسئلة , فما تركت في النفس شيئاً , فالتعليم هنا تعليم بالمشاهدة , فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يتشبه بأفعاله , وعليه ففي الكلام تشبيه.

ولكن كيف نكوّن هذه الصورة التشبيهية؟

المشبه هنا سيكون تيمم سيدنا عمار.

والمشبه به هو تيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووجه الشبه هو الإتيان بأركان التيمم على الوجه الصحيح.

ولقد تم كل ذلك من خلال الإشارة التي دلت على المعاني الكثيرة بحركات يسيرة , ولذلك سكت اللسان , وقامت اليدان لتقول بحركاتها , وتقلباتها ليرى الجميع فيحصل المراد.

ومن باب دلالة الإشارة على التشبيه ما رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة

" وأشار مالك بالسبابة والوسطى. (85)

وهنا أيضاً قامت الإشارة بدور المشبه به؛ لأنها أكمل في البيان من المشبه , ولو أردنا أن ندلل باللفظ عن هذه الصورة لقلنا: رسول الله وكافل اليتيم متجاورين في الجنة كثيراً.

فهل ترى لهذه العبارة من الرونق والبهاء والأريحية ماتجده في قوله: " أنا وهو كهاتين "؟.

إن الإشارة جعلت الجميع ينظر إلى هذين الأصبعين ويفكر فيما فيهما من معان , كالالتصاق , ودوام الصحبة , ووحدة الدرجة , وشمول النعيم , وحسن الجوار , .... الخ.

فالإشارة هنا زادت من عمق التشبيه , ووضعت له كثيرا من الأضواء البيانية , وفتحت له الباب ليجمع كل معاني الود , والألفة والاقتران , والوحدة وغير ذلك.

ولا يخفى عليك أن الغاية من وراء كل هذا هو حث المؤمنين على كفالة الأيتام , والإحسان إليهم , واستنهاض الهمم حتى لا يبقى في الأمة يتيم غير مكفول.

وقد تحمل الإشارة معنى التمثيل الذي يأتي في أعقاب المعاني , فتزيد الصورة أنساً وألفة , بالإضافة إلى قيام الإشارة مقام الدليل على صحة التشبيه , وهذا ما يفعله التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني , ومن ذلك:

ما رواه المسور بن شداد , قال: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم:

" والله مالدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه , وأشار بالسبابة , في اليم فلينظر بم يرجع؟ (86)

إن الصورة التشبيهية قد كملت عند قوله: ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم.

ثم جاءت الحركة , حركة وضع السبابة في اليم؛ لينظر الجميع , ويستحضر اليم وأنه جالس على شاطئه , ثم هاهو يضع أصبعه في اليم , ثم ينظر فلا يجد فيه من الماء إلا البلل.

إن هذه الإشارة أعطت التشبيه قوة , لأنها قامت بدور الدليل , والبرهان على صدق الصورة , وأن من يفعل ذلك يرجع فارغ اليد إلا من الحسرة.

أرأيت كيف تدعم الإشارة التشبيه؟ , وكيف توضح المراد منه؟ وكيف أكسبته الأنس والألفة كما قال الإمام عبد القاهر (86).


إخراج المعنوي في صورة المحسوس

تحدث البلاغيون عن إخراج المعنوي في صورة المحسوس , وذلك في باب البيان عن طريق التشبيه , أو الاستعارة , أو التعبير بالمضارع , وغير ذلك.
لكن الإشارة كما أرى أقوى أثراً من كل ذلك لأن الإشارة لا تكتفي بإخراج المعنوي في صورة المحسوس , وإنما تقوم بتصويره وتجسيده , فيتحول الأمر إلى صور حية مشاهدة تراها العيون , ومن ثم يتفاعل معها المتلقي؛ فيرسخ المعنى في القلب رسوخاً لا مزيد عليه.
وأول ما يلقانا من هذا ما رواه عبد الله بن عمر , قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه , وهو يمسح الدم عن وجهه, ويقول: " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " (88)
فجملة " يمسح الدم عن وجهه " فهم منها المراد , لكن قيام النبي صلى الله عليه وسلم بتجسيد هذه الحركة زادت المعنى شخوصاً؛ لأنها عمدت إلى المتلقي , ونبهت عينه إلى أن ينظر إلى المعنى وهو يتحرك أمامه.
كما أن في هذه الإشارة بعضاً من التخفيف والترويح عن الصحابة الذين ضاقوا بتعذيب الكفار لهم , فكان في هذه الصورة التي حكاها النبي تأنيساً وترويحاً عنهم من شدة ما لاقوه. فالأمر كما قال ابن حجر كان [تطييباً لقلوب الصحابة] (89)
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير