ولقد برزت في هذا الكتاب – كما في غيره من كتبه – شخصية الحافظ الناقد الخبير البصير بمواضع الكلام، ومراتب الرواة، وعلل أحاديثهم، فكان خير تعبير عن علم جمٍّ وافر، وذوق ناقد ماهر، فلقي من القبول ما لم يكد يلقه كتاب آخر في موضوعه، ولم يجرأ أحد من الناس على رد أحكام الحافظ – بل: غاية ما كان استدراكات لا يخلو عمل بشري من العوز لها – منذ تأليفه في النصف الأول من القرن التاسع الهجري حتى وقت قريب.
وبينما المسلمون اليوم يعيشون بين صفعة حاقد، وزمجرة جامد، وتسلط كاسد، ظهر في أسواقهم كتاب أسماه مؤلفاه الدكتور بشار عواد معروف والشيخ شعيب الأرنؤوط: " تحرير تقريب التهذيب "، ادعيا فيه تعقب الحافظ في أحكامه، وأنه أخطأ في خمس الكتاب، ولم يكن صاحب منهج و … و … و …، مما وصفا الحافظ من أوصاف ننزه ألسنتنا هنا من القول بها وندع أمرها إلى الحافظ، فهو لا شك خصمهما يوم القيامة.
ومن هنا أخذنا على عاتقنا التصدي لهذا الكتاب، وبيان ما فيه من زيف وزلل وخطأ ووهم، وليس تجمعنا والمؤلفَينِ كراهةٌ، لكن مقالة الحق لا تبقي لصاحبٍ صاحباً، وتدخلك مع من لست تعرف في غير صحبة ودٍّ، ولكن كثرةُ الدعاء لهما بالسداد وحسن الخاتمة كان ديدننا طوال صحبتنا لهما في كتابة هذا العمل، وكلٌ يؤخذ منه ويردُّ عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وربما كتب القلم غاضباً، فقال حينا – في الحقِّ – ما ليس كلُّ الناس ترضى عنه وتقبلُ، فهذا مما نستغفر الله منه – على اعتقادنا بصوابه -، ونعتذر للمحررين عنه – وإن كان مما جنته أيديهم – ونقول لمن قد لا يرتضي:
أَمْرَانِ كَمْ قَضَّا مَضَاجِعَ عَالِمٍ
الحَقُّ مُرٌّ والسُّكُوتُ مَرَارُ
فَلَئِنْ سَكَتَّ فَأَنْتَ تَخْذُلُ حَافِظاً
وَلَئِنْ كَتَبْتَ فَضَجَّةٌ سَتُثَارُ
عَتَبٌ عَلَى قَلَمِ الحَقِيْقَةِ أَخْرَسٌ
فَمَتَى وَقَدْ هُدِمَتْ رُؤَاكَ تَغَارُ؟
وَمَتَى سَتَكْتُبُ أَنْتَ أَوَّلُ صَارِخٍ
يُرْجَى إِذَا قَتَلَ الهَوَاءَ غُبَارُ
فَكَتَبْتُ مَوْجُوعَ الفُؤَادِ، مَرَارَةٌ
أَلاَّ يُرَى غَيْرَ السُّكُوتِ خَيَارُ
يَا دَوْلَةَ " التَّحْرِيْرِ" لَسْتِ بِدَوْلَةٍ
قَدْ آنَ يَقْتُلُ لَيْلَتَيْكِ نَهَارُ
فجاء هذا الكتابُ غضبةً في الله لابن حجر، وما علينا من شيءٍ بعد هذا سوى طلب السداد من الله عز وجل في زمنٍ قليلاً ما رأينا فيه غضبة لله، ولعلماء الأمة الذين أحرقوا أعمارهم شموعاً أنارت دروب حياتنا المظلمة، فلم نَرَ قلماً تعقب المحررين في كتابهما هذا غير قلم شيخنا العلامة المحقق الدكتور هاشم جميل – حفظه الله – على كثرةٍ لهذه الأقلام لكن في غير ما غضبةٍ.
ورحم الله القائل:
ما أكثر الناسَ بل ما أقلهُمُ والله شهد أنَّي لم أقلْ فندا
و:
إنّي لأفتح عيني حين أفتحها على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
و:
ما أكثر ((الأقلام)) حينَ ((تَعُدُّها)) لكنها في النائباتِ قليلُ
وكان دافعنا الرئيس الذب عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن علم الجرح والتعديل الذي هو أصعب العلوم، والدفاع عن الصحيحين لما رأينا من تجني المحررين عليهما وعلى رواتهما.
ثم ليس أمر الكلام في الرواة شيئاً يسيراً أو هيناً، لذا اشترطت في المجرح والمعدل: العدالة، والدين المتين، والورع، لذا قال الإمام السبكي –رحمه الله– وهو يتحدث عن صنوف العلماء: ((ومنهم المؤرخون وهم على شفا جرفٍ هارٍ، لأنهم يتسلطون على أعراض الناس، وربما نقلوا مجرد ما يبلغهم من صادقٍ أو كاذبٍ، فلابد أن يكون المؤرخ عالماً عادلاً، عارفاً بحال من يترجمه ليس بينه وبينه من الصداقة ما قد يحمل على التعصب ولا من العداوة ما قد يحمله على الغض منه)).
فشمرنا عن ساعد الجد، لنقد هذا الكتاب وبيان فحواه، والله نسأل أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم.
واقتضت طبيعة هذا الكتاب أن نقسمه بعد هذه المقدمة إلى قسمين:
القسم الأول: في المقدمات، واحتوى على خمسة فصول:
الفصل الأول: الحافظ ابن حجر، وكتابه التقريب.
الفصل الثاني: أنظار في تحرير التقريب.
الفصل الثالث: فرائد الفوائد.
الفصل الرابع: طبعات التقريب.
الفصل الخامس: نقد مقدمة التحرير.
¥