ولا شك أن من هذه حالته وهذه ميوله وعواطفه تكون دراسته انتقائية في أحسن الأحوال, فيأخذ ما يوافقه ويلاءم هواه ومذهبه ويترك كل ما لا يوافق ذلك. وقد لاحظ اثر تلك العواطف والميول على بعض الإخباريين بعض الباحثين من غير المسلمين أيضاً, فقد ذكر المستشرق فلهاوزن أن أبا مخنف لم يستطع أن يتجرد تماماً من عواطفه (وقد أغفل في بعض الأحيان شيئاً مما لا يعجبه, كإغفاله مثلاً أن عقيل بن أبي طالب كان في موقعة صفين يحارب في صفوف أعداء أخيه علي بن أبي طالب) ().
فإذا كان تاريخ الطبري الذي يعد من خيرة كتب التاريخ الإسلامي على هذا المستوى فما بالك بالكتب الأخرى التي تعد عالة على تاريخ الطبري. ومما زاد من صعوبة اكتناه الحقائق لتاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية هو انه لم يتم أو بالأصح لم تبدأ مرحلة التدوين في التاريخ الإسلامي إلا في أواخر الدولة الأموية, ثم انتقلت الخلافة إلى بني العباس فلم يكونوا حريصين على إظهار بني أمية بمظهرهم الحقيقي كما كان بعض الناس على عهدهم (يتملقون الحكام بتشويه محاسن بني أمية) ().
وقد فهم المستشرق فلهاوزن هذه الحقيقة جيداً حين قال: (أما روح هذا المأثور الشامي فيستطيع الإنسان أن يعرفه أحسن معرفة إذا رجع إلى كتب التاريخ النصرانية خصوصاً كتاب الصلة لتاريخ ايزيدور فالأمويون في هذه الكتب النصرانية يظهرون في ضوء آخر مغاير كل المغايرة في الكتب الأخرى, وهو يظهرون على صورة أحسن بكثير من الصورة التي اعتدنا أن نراهم عليها. أما في كتب التاريخ العربي فقد كانت الكلمة الأخيرة لأعدائهم وقد ألحق ذلك بتاريخهم ضرراً كبيراً) ().
لا أقصد من سوقي لكلام فلهاوزن حول التواريخ النصرانية أن نعتمد عليها في دراسة قضايانا الإسلامية وإنما قصدت فقط أن ظاهرة التحيز وعدم الدقة التي اتسمت بها كثير من نقولنا التاريخية قد لاحظها غيرنا لذا فالحاجة إلى مراجعة علمية نقدية واسعة لتاريخنا الإسلامي وإخضاعه لقوانين الرواية المعتمدة لدى علماء الحديث, لأن تمحيص تراثنا التاريخي لا يقل أهمية عن تمحيص الآثار النبوية.
وقد وعى المحققون من العلماء هذه المسألة وخاصة ما يتعلق منها بالرعيل الأول من المسلمين فقسموا المثالب المنقولة عنهم والمنسوبة إليهم إلى قسمين لا ثالث لهما:
فقد قال ابن تيمية: (إن ما نقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان أحدهما ما هو كذب (ويشمل):
أ - أما كذب كله.
ب - وأما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن, وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب, مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين ...
والنوع الثاني: ما هو صدق وأكثر هذه الأمور فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً وتجعلها من موارد الاجتهاد) () و لا أريد أن اظلم التاريخ الإسلامي كله أو أجرده من مقومات النقد العلمي كلها.
فقد كانت البلاد الإسلامية تحتوي على أربع مدارس تاريخية كبرى لكل مدرسة مميزاتها وسماتها تبعاً للبيئات التي نشأت فيها, وتبعاً لسلوكيات أفرادها, فقد كانت هناك مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة ومدرسة البصرة ومدرسة بغداد, وقد عقد الدكتور خليل إبراهيم السامرائي مقارنة بين مدرسة المدينة من ناحية ومدرستي الكوفة والبصرة من ناحية أخرى فكانت النتيجة كما يلي:
أولاً: اهتمام مدرسة المدينة بالمواضيع الدينية كالسير والمغازي والتراجم , أما المدرستان الأخريان فكان اهتمامهما بالمواضيع الدنيوية, كأيام العرب والأنساب والحروب والقصص التاريخية.
ثانياً: اهتمام مدرسة المدينة بالإسناد على غرار دراسة الحديث, بينما اقتصرت المدرستان الأخريان على المتن دون السند غالباً.
ثالثاً: كانت مدرسة المدينة تعتمد تثبيت تاريخ الحوادث وتأكيده, بينما لا نجد هذا في مدرستي البصرة والكوفة إلا في الحروب والوقائع وأخيراً كان الاتجاه الإسلامي هو الغالب على مدرسة المدينة بينما غلب الاتجاه القبلي المحلي على المدرستين الأخيرتين) ().
أما المدرسة الرابعة أعني مدرسة بغداد فقد كان (الطابع العالمي هو السائد على دراساتها ... وذلك على أثر الازدهار الحضاري الذي رافق مختلف شؤون الحياة لدى العرب) ().
¥