ما أريد أن أقوله هو أن النصوص التاريخية التي بين أيدينا تعجز إن تعطي لنا صورة صادقة للواقع أو تقارب ما كانت عليه الحياة, وبالتالي لا يجوز لأحد يتحرى الحق والصواب أن يسلم لكل ما ورد في كتب المؤرخين لكي يرسم صورة المجتمع الذي تتحدث عنه وعن أحداثه وأهم قضاياه.
نعم إن روايات الإخباريين على درجة كبيرة من الأهمية لا يجوز إغفالها ولكن في الوقت نفسه لا يجوز أن تأخذ كمسلمات وإنما يُنظر إلى إليها كمادة يستخرج منها تاريخنا بعد النقد والتمحيص, فـ (دراسة التاريخ لا تكون صحيحة إلا بتعليل الحوادث) ().
وقد بلغت بعض الروايات حداً فظيعاً من الاستهتار بالقيم وتصوير المجتمع الإسلامي الأول بأبشع ما يتصوره العقل, فمثلاً:-
يقول ابن الأثير: (قال عمر بن سبيئة () حج يزيد في حياة أبيه فلما بلغ المدينة جلس على شراب له فاستأذن عليه ابن عباس والحسين فقال: إن ابن عباس إذا وجد ريح الشراب عرفه, فحجبه وأذن للحسين فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال: لله در طيبك ما أطيبه فما هذا؟ قال هو طيب يصنع بالشام ثم دعا بالقدح فشربه ثم دعا بآخر فقال: اسق أبا عبدالله , فقال الحسين: عليك شرابك أيها المرء لا عين عليك مني فقال يزيد:
إلا يا صاح للعجب دعوتك ذا ولم تجب
إلى الفتيات والشهوا ت والصهباء والطرب
وباطية مكللة عليها سادة العرب
وفيهن التي تبلت فؤادك ثم لم تتب
فنهض الحسين وقال: بل فؤادك يا ابن معاوية تبلت) ().
إن مثل هذه النصوص لا تسيء إلى يزيد والحسين فحسب بل تسيء إلى المجتمع الإسلامي آنذاك بعمومه, لأن مجاهرة يزيد بشرب الخمر في موسم الحج وفي مدينة رسول الله ? وبحضرة الحسين ? استهتار فظيع بأمور الدين وتعاليمه يضعنا بين أمرين لا ثالث لهما, أما أن نصدق هذه الرواية ونؤمن بمقتضاها وهو أنه لم يكن لتعاليم الدين سلطان على النفوس ولم يكن هناك مجتمع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولم يكن هذا القرن ثاني خير القرون التي أخبر عنها رسول الله ? , وأما أن نحكم بأن هذه الرواية موضوعة ابتدعها أناس يتطلعون إلى يوم يلعن فيه آخر هذه الأمة أولها, وتزول تلك الروابط الإيمانية التي تشد بنيان الأمة وتقوي وحدتها, ومما لا مجال للشك فيه أن من يرى في الدولة الإسلامية في عهدها الأموي أو في عهدها العباسي خصوماً ألداء لأهل بيت النبوة لا تجوز شهادته على تلك الدولة إذ ليس من العدل أن يكون الخصم هو الحكم أو يكون الحكم متحيزاً إلى فئة ما. والناظر في كتب التأريخ الإسلامي يرى أن الكثير منها وقع أصحابها تحت تأثير العواطف والميول الشخصية إلى آل البيت بحكم ما لهم من مكانة سامية في قلوب المسلمين. ومن لم يكن واقعاً تحت تأثير تلك العواطف والميول فإنه واقع تحت تأثير الخط العام لكتابة التأريخ, وهو الاهتمام بمآثر أهل البيت والإغضاء من شأن مخالفيهم. فان كان للمسعودي والدينوري واليعقوبي وابن أعثم الكوفي وابن الطقطقا ميول علوية لا يخفونها () فإن الطبري وابن الأثير والسيوطي لم يستطيعوا أن يتخلصوا من ضغط هذا التيار. إذ أن نسبة كبيرة من تاريخ الطبري مروية عن أبي مخنف لوط بن يحيى وعن محمد بن عمر الواقدي.
أما أبو مخنف فقد قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال: (إخباري تالف لا يوثق به تركه أبو حاتم وغيره) ().
وقال ابن تيمية في معرض كلامه على حجية الأخبار التي يوردها من يتعرضون للبحث عما يسمونه بمثالب الصحابة?: (كما أنهم جهلة بالمنقولات وإنما عمدتهم على تواريخ منقطعة الإسناد وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب فيعتمدون نقل أبي مخنف لوط بن يحيى وهشام بن الكلبي) ().
وأما محمد بن عمر الواقدي (فهو لا يتورع بإظهار الصحابة ? بمظهر المتآمرين على عثمان) () وقد جرحه علماء الجرح والتعديل وحذروا الناس من الأخذ بحديثه , فقد اتهمه النسائي والشافعي بالكذب والبخاري ينص على عدم الأخذ بحديثه. في حين أن الذهبي قال: استقر الإجماع على وهن الواقدي ().
¥