بيد أن خضوع الإنسان لهذه الشهوات والرغبات والأمزجة وإن كان قاسماً مشتركاً بين الناس إلى حدٍ ما فانا لا نستطيع أن ندّعي أن الناس يخضعون لن بنفس المقدار, إذ أن فيهم من يستطيع أن يتجرد عن ميوله الخاصة إلى حد بعيد ما لم يكن لها صل بالحكم على حقائق الأشياء وفيهم من يكون خضوعه لها خضوعا شبه تام. وعلى هذا فلا أرى وجهاً لتعميم الشيخ محمد أبي زهرة حيث يقول: (فالرغبة إذن تستولي على مقياس الحسن والقبح في الأشياء والأفكار) ().
فإطلاق القول هكذا بلا تقييد فيه ظلم للحقيقة وأهلها, نعم إن الرغبة قد تستولي على ذوي النفس الضعيفة والنظر القصير, لكنها تقف عاجزة أمام ذوي البصائر والعزائم الذين يقولون الحق وإن كان مراً. والذين يشهدون بالحق ولو على أنفسهم لأن الرغبة في جمع المال مثلاً لا تجعل السرقة حسنة حتى عند المجرمين.
ثالثاً: التعصب في تقليد السابقين:
ومن الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف الناس في حكمهم على الأشياء التعصب لآراء تلقوها عن السابقين اكتسبت بمرور الزمن قداسة كبيرة دفعتهم إلى تبني هذه الأفكار بأي ثمن حتى إن اضطرهم الأمر إلى اصطناع الحجج لكي يظهروا ما تعصبوا له بمظهر الحقيقة, فكان بعض المتعصبين لا يتورعون عن الكذب على رسول الله ? من أجل نصرة مذاهبهم , وعن هؤلاء المتعصبين يقول ابن عراق الكناني: (أصحاب الأهواء والبدع وضعوا أحاديث نصرة لمذاهبهم أو ثلباً لمخالفيهم , روى أبن أبي حاتم في مقدمة كتاب الجرح والتعديل عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعد ما تاب: أنظروا عمن تأخذون فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرنا له حديثاً) ().
رابعاً: اختلاف المدارك والقدرات العقلية:
يتميز كل إنسان عن غيره بمداركه الخاصة وقدراته التي يتسم بها, تبعاً لما وهب من فطنة وذكاء, وما مر به من تجارب في حياته فإذا اختلفت المدارك والقدرات التي هي وسائل الإنسان في حكمه على الأشياء فمن الطبيعي أن تأتي الأحكام مختلفة تبعاً لذلك التفاوت العقلي. فمن الناس من يكون إدراكه نافداً إلى حقيقة الأشياء ومنهم من يذهب به الوهم بعيداً فيعشو عن الحقيقة والصواب. وبالتالي يزيد من الاختلاف ويبعد عن الائتلاف. هذه جملة من الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف بين الناس في حكمهم على الأشياء تناولناها على وجه السرعة لتكون مدخلاً لدراسة أسباب الاختلاف بين الصحابة ?.
أسباب اختلاف الصحابة ?
بعد أن تعرفنا على الأسباب التي تؤدي إلى الاختلاف في وجهات النظر بين الناس في موضوع ما, أصبح الآن يسيراً علينا أن ندرس الأسباب التي أدت إلى اختلاف الصحابة?, ولكن قبل هذا علينا أن نعرف أنواع الاختلافات التي وقعت بين الصحابة ?.
وجملة الاختلافات بين المسلمين أما أن تكون:-
• اختلافاً في الأمور العقائدية.
• أو في الأمور الفقهية.
• أو في الأمور السياسية.
وقد وقع بين الصحابة ? من هذه الاختلافات نوعان:-
الأول: اختلاف في الأمور الفقهية.
الثاني: اختلاف في الأمور السياسية.
أما الاختلاف في المسائل العقائدية فلم يقع بين الصحابة ? منه شيء لأن الصحابة ? (كانوا يكرهون البحث والجدل في الأمور العقائدية , ويرون أنه لا سبيل إلى تقرير شيء منها إلا بالوحي. بينما كانوا لا يتحرجون من النظر والاجتهاد في الشرائع العملية) () بل إن البحث في هذه الأمور _أي العقائدية- (بدأ يظهر في أواخر القرن الأول الهجري) () حيث لم يبق وجود لصحابة رسول الله ? ورضي الله عنهم.
ولكل من النوعين السابقين من أنواع الاختلاف أسباب أدت إلى وقوعه بين الصحابة?.
فمن الأسباب التي أدت إلى وقوع الاختلافات الفقهية بين الصحابة ? كما ذكر الشيخ عبدالوهاب خلاف () ما يلي:
اولاً: إن أكثر نصوص الحكام في القرآن والسنة الصحيحة ليست قطعية الدلالة على المراد منها, بل هي ظنية الدلالة في الغالب, وكما تحتمل أن تدل على معنى تحتمل أن تدل على معنى آخر بسبب أن في النص لفظاً مشتركاً لغة بين معنيين أو أكثر, أو أن فيه لفظاً عاماً يحتمل التخصيص , أو لفظاً مطلقاً يحتمل التقييد. فكل مشرع يفهم منه حسبما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر.
¥