ثانياً: إن السنة النبوية لم يتم تدوينها في عهد الصحابة ? , ولم يكن أحد من الصحابة ? حافظاً للسنة كلها, مما كان يضطر بعضهم في كثير من الأحيان إلى أن يتراجع عن فتواه التي أفتى بها بعد أن علم من النصوص الواردة في المسألة ما لم يكن قد علمه من قبل, ولعل هذا السبب (أعني عدم تدوين السنة) كان وراء رد بعضهم لبعض الأخبار لاعتقاد السامع أن ما معه من نصوص في المسألة قد يكون ناسخاً لما مع الصحابي الآخر أو مخصصاً له أو غير ذلك ولا دخل للراوي نفسه من حيث العدالة كما توهم السايس حين قال: (إنهم كانوا يردون الحديث لضعف ثقتهم بالراوي) () , فلو كان الأمر كما قال رحمه الله لما قبل حديث من دره الصحابة ? ولو مرة, ولما تجرأ علماء الجرح والتعديل على تعديل من جرحه الصحابة ?.
ثالثاً: اختلاف البيئات التي يعيش فيها الصحابة ? كان له الأثر الكبير في اختلاف الأحكام التي تصدر عنهم فما يطرأ لعبدالله بن عمر في المدينة غير ما يطرأ لمعاوية بن أبي سفيان في الشام وهو غير ما يطرأ لعبدالله بن مسعود في الكوفة, لأن الأحداث وليدة البيئة فيجب أن تكون الحلول ملائمة لها وفق ما تحتمله النصوص ويتطلبه النظر الصحيح.
رابعاً: لما كانت النصوص القرآنية والنصوص النبوية محدودة في حين إن مفردات الحياة غير متناهية فان ذلك اوجب على فقهاء الصحابة ? أن يعملوا رأيهم في استنباط الأحكام الشرعية لهذه النصوص المتجددة. وكان لابد لهم من أن يختلفوا تبعا لقدراتهم العقلية ومواهبهم في استشفاف الأمور وحملها على مقتضى النصوص التشريعية الثابتة.
هذه هي جملة الأسباب التي أدت إلى اختلاف الصحابة ? في الأمور الفقهية.
أما الأسباب التي أدت إلى الاختلافات السياسية بين الصحابة ? فيمكن ردها إلى سببين:
سبب قريب: وهو محاولة معرفتهم من هو أحق بالخلافة.
وكانت بداية هذا الاختلاف عقب وفاة الرسول , فقد ظن الأنصار أنهم أولى بهذا الأمر من غيرهم, فقالوا نحن الذين آوينا ونصرنا وبنا اعز الله دينه فلا يكون هذا الأمر إلا فينا, وقال المهاجرون نحن السابقون الأولون أسلمنا ونحن قلة وتركنا المال والولد في سبيل نصرة الإسلام فنحن أحق به من غيرنا, ثم اختلف المهاجرون على أنفسهم فقال أغلبهم سوى بني هاشم إن الخلافة في قريش دون أن يخصوا بيتاً دون آخر (لأنها قبيلة النبي ? ولأنها أفضل القبائل ومن السهل أن يخضع لها جميع العرب إذ لو انتخب الخليفة من قبيلة أخرى لقامت القبائل ينافس بعضها بعضاً) ().
بينما ذهب بنو هاشم إلى أن الخلافة لا تكون إلا فيهم لقرابتهم من رسول الله ?.
السبب الثاني وهو السبب البعيد, وهو:
صحوة العصبية العربية, فقد جاء الإسلام والعرب تطحنهم حروب دامية تغذيها عصبية عمياء, فأباد الله هذه الحروب بأن أطفأ داعي العصبية وجعلها من عبية () الجاهلية ودعاهم إلى التمسك بشيء جديد لا يمت إليها بصلة على أساسه يكون التفاضل والتفاخر وهو تقوى الله سبحانه وتعالى, قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? () فجعل تقوى الله تقوم مقام الاعتزاز بالآباء والأجداد والنسب العلي.
بل إن الرسول ? اخرج من يدعو إلى عصبية عن حظيرة الإيمان , فعن أبي هريرة ? قال: قال رسول الله ?: (من قاتل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو يغضب لعصبية فقتلته جاهلية) ().
فاختفت هذه العصبية طوال عهد رسول الله ? وأبي بكر وعمر وشطراً من خلافة عثمان, فلما قُتل ? نشطت هذه العصبية من جديد ودبت الحياة فيها ().
ويبدو أن سبب حياة هذه العصبية بعد رقادها هو أن الجيل الجديد الذي نشأ بعد الصحابة? كانت لديهم أطماع سياسية كبيرة, ولم يكن من السهل أن يرضخوا لسلطان خليفة ما, فكان كثير منهم يرى أنه جدير بالخلافة, وأن ليس فيه من الغضاضة ما يجعله يخرج من الساحة معلناً ولاءه لمن يختاره المسلمون, وكان لكل واحد من هؤلاء أتباع كثيرون يدفعونه إلى ذلك فكان أن اجتمعت في نفوسهم الرغبة وتأييد الناس, مما أدى إلى ظهور العصبية من جديد.
وهناك سبب آخر يمكن إضافته وهو محاولتهم معرفة طبيعة الحكم وشروط الخلافة بعد رسول الله ?.
¥