[عقدة العمل الغائب، مقال رائع للشيخ ....]
ـ[حلية الأولياء]ــــــــ[24 - 10 - 03, 09:46 ص]ـ
عقدة العمل الغائب (1/ 2)
عمر بن عبدالله المقبل
26/ 8/1424
22/ 10/2003
الحمد لله، وبعد:
فإن النفس البشرية مغرمة بالأماني المستقبلة، التي تفزع إليها بحثاً عن تبديد هم الفشل الحاضر، أو تبرير الكسل القائم.
كما أن من طبيعة النفس البشرية التعلق بالغيب، لمعرفة ما وراءه، واستشراف ما بعده، يظهر ذلك جلياً في عدة صور، منها: التوقان الشديد لمعرفة تعبير الرؤى والأحلام التي تعرض لها في المنام، وما رواج سوق الكهنة والعرّافين إلا برهان على ذلك.
ومنها ـوهو بيت القصيد هناـ: التعلق بأعمال وأحوال لم تتحقق بَعْدُ على أرض الواقع، وتمنيها، والمراهنة على فعلها إذا هي وجدت.
إننا نقرأ في آيات القرآن الكريم قصصاً وأخباراً تتحدث عن أناس كانوا يعيشون هذه الإشكالية، وقد ذكر الله منها نموذجاً في بني إسرائيل، وآخر في هذه الأمة، ليدل ذلك على أن هذه ظاهرة جلية في جميع الأمم بلا استثناء.
يقول تعالى عن طائفة من بني إسرائيل كانوا يعيشون هذه الأماني، أو ما عبر عنه هذا المقال بـ (عقدة العمل الغائب):"أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألاّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا ألاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، وحتى الذين صدقوا في دعواهم بادئ الأمر، وكانوا من جملة من ساروا في ركب جيش طالوت؛ ابتلوا باختبار آخر "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ ... " الآية (البقرة:249).
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً === فقد صاروا أقل من القليل
إنها فئة انتفضت العقيدة في قلوب أصحابها، وتحرك الإيمان في نفوسهم، وشعروا بأنهم أهل دين حق، وعقيدة حقة، وأن أعداءهم على كفر وضلال، فيعرض عليهم نبيهم سؤالاً يستوثق به من صدق عزيمتهم، وقوة تصميمهم، لأنهم الآن في سعة، فأما إذا فرض القتال؛ فلا مناص من النفير في سبيل الله، فيقول لهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ألاّ تُقَاتِلُوا)؟ وهنا ترتفع درجة الحماس لدى هذه الفئة، ليؤكدوا ما تمنوه وطلبوه، فيقولون: (وَمَا لَنَا ألاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)؟! ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم، بل جاء السياق ليبين أنها دعوى كجبال الجليد، ما لبثت أن ذابت حينما اصطدمت بحرارة الحقيقة (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).
إن هذه الآيات الكريمة لتكشف نوعاً من الخلل الذي يعتري بعض أفراد الأمة ـ الذين يرومون عزها ـ لكنهم بعدُ لم تنضج تربيتهم الإيمانية، ولم تصهرها التجارب بعد، فهم مغرقون في الأماني، التي يفزعون بها إلى الترفع عن حالة الإحباط التي يعيشونها، من غير إدراك لحقيقة الأمر وأبعاده.
وتأمل في قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فهم ظلموا أنفسهم بنكوصهم عن عهدهم في تنفيذ ما وعدوا بتحقيقه، وظلموا الحق حينما خذلوه وخذلوا نبيهم، مع علمهم بأنهم على حق، ونبيهم على حق.
¥