ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقا للشرع؛ إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة، وينبغي لك ألا تغترّ بشطح الصوفية وطاماتهم (اي رياضة النفس ومجاهدتها)؛ لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة، لا بالطامات والترهات. (أي الأباطيل).
واعلم أن اللسان المطلق والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة علامة الشقاوة، حتى لا تقتل النفس بصدق المجاهدة لن يحيى قلبك بأنوار المعرفة.
واعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن تبلغ تلك الحالة تعرف ما هي! وإلا فعلمها من المستحيلات؛ لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقيا، لا يستقيم وصفه بالقول، كحلاوة الحلو ومرارة المر، لا تعرف إلا بالذوق، كما حكي أن عنّينا كتب الى صاحب له: أن عرّفني لذة المجامعة كيف تكون؟ (عنّنينا: لا يستطيع إتيان النساء).
فكتب له في جوابه: يا فلان .. إني كنت حسبتك عنّينا فقط، الآن عرفت أنك عنّين وأحمق؛ لأن هذه اللذة ذوقية، إن تصل إليها، وإلا لا يستقيم وصفها بالقول والكتابة.
• أيها الولد .. !!
بعض مسائلك من هذا القبيل، وأما البعض الذي يستقيم له الجواب فقد ذكرناه في "إحياء العلوم" وغيره، ونذكر ههنا نبذا منه ونشير إليه فنقول: قد وجب على السالك أربعة أمور:
أول الأمر: اعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة.
والثاني: توبة نصوح لا يرجع بعده الى الذلة.
والثالث: استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حق.
والرابع: تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى.
ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة.
حكي أن الشبلي رحمه الله خدم أربعمائة أستاذ، وقال قرأت أربعة آلاف حديث، ثم اخترت منها حديثا واحدا، وعملت به، وخليت ما سواه؛ لأني تأملته فوجدت خلاصي ونجاتي فيه، وكان علم الأولين، والآخرين كله مندرجا فيه فاكتفيت به، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه:" اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واعمل للنار بقدر صبرك عليها" رواه البيهقي بلفظ:" اعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدا". قال المناوي في التيسير 1\ 176: رمز المؤلف ـ يريد السيوطي ـ لضعفه.
• أيها الولد .. !!
إذا علمت هذا الحديث لا حاجة الى العلم الكثير.
وتأمل في حكاية أخرى، وهي: أن حاتم الأصمّ كان من أصحاب شقيق البلخي رحمة الله تعالى عليهما، فسأله يوما قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصّلت؟
قال: حصّلت ثماني فوائد من العلم، وهي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها.
فقال شفيق: ما هي؟
قال حاتم:
الفائدة الأولى: إني نظرت الى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبا ومعشوقا يحبه ويعشقه، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه الى مرض الموت وبعضه يصاحبه الى شفير القبر، ثم يرجع كله، ويتركه فريدا وحيدا، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد.
فتفكرت وقلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره، ويؤنسه فيه، فما وجدته غير الأعمال الصالحة، فأخذتها محبوبة لي؛ لتكون لي سراجا في قبري، وتؤنسني فيه، ولا تتركني فريدا.
الفائدة الثانية: أني رأيت الخلق يقتدون أهواءهم، ويبادرون الى مرادات أنفسهم، فتأملت قوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى} النازعات 40 – 41. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت الى خلاف نفسي وتشمّرت بمجاهدتها، وما متعتها بهواها، حتى ارتاضت بطاعة الله تعالى وانقادت.
الفائدة الثالثة: أني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جميع حطام الدنيا، ثم يمسكه قابضا يده عليه فتأملت في قوله تعلى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ففرّقته بين المساكين ليكون ذخرا لي عند الله تعالى.
الفائدة الرابعة: أني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فأعتز بهم.
وزعم آخرون أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد، فافتخروا بها.
وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم.
واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه، وتبذيره، فتأملت في قوله تعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، فاخترت التقوى، واعتقدت أن القرآن حق صادق، وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل.
¥