ثم تأتي الآية مبدوءة بهذه الجملة الخبرية، وكان الخبر فيها هو هذا الاسم (غفار) وأكد هذا الخبر بعده مؤكدات منها: [إن – واللام – واسمية الجملة] وكان المخبر عنه هو الضمير الظاهر – ياء المتكلم – المشعر بحضور المتكلم ورؤية الجميع له، وكأن القارئ في حضرته سبحانه، فهو يخاطبه.
ثم إن الجملة ليس فيها تقديم أو تأخير حيث تأخرت المتعلقات عن الخبر، لأن القصد إثبات المغفرة، بعيداً عن أصحابها، والمستحقين لها، فإذا ثبتت المغفرة، واتصافه سبحانه بها قيل: إنها لمن تاب وآمن وعمل صالحاً .... الخ.
ولو قدمت هذه المتعلقات وقيل وإني لمن تاب وآمن .. لغافر، لظن تعلق الوصف والخبر بهؤلاء، لكن هذا غير مراد لأن الآية وسياقها في ذكر نعم الله وصفاته والتي منها أنه (غفار) سواء وجد من يغفر لهم أم لا.
وفي السياق علاقة وثيقة بين الاسم ومضمون الآيات.
فالاسم (نكرة) (غفار) ومن دلالة النكرة العموم والشمول، فالستر هنا شمل الذنب والمذنب، كما يشمل أنواع الذنوب المختلفة، من حيث اكتساب الرزق، وإنفاق الرزق.
فالآية تنادي على بني إسرائيل لتذكرهم:
قد أنجيناكم – وواعدناكم – ونزلنا عليكم.
وهذا الخطاب يلحظ فيه التودد لهذه الطائفة المؤمنة فلما زاد التودد قيل: (كلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا ..
وهنا يطرح سؤال، وما بال من طغي ثم تاب ورجع؟
فقيل (وإني لغفار .. )
فالسياق الأخص هنا مشعر بالتودد والرغبة في صلاح حالهم، وبخاصة وهم في بداية عهدهم بعد النجاة من فرعون، فوُعدوا بعموم المغفرة وشمولها فالمناسبة بين الاسم والمستحقين له لا تخفي.
العلاقة بين السحرة وقوله (غفار)
الإلحاح على السورة والآيات، والاسم الشريف، ومداومة النظر في كل ذلك يفتح للتحليل أبواباً أخرى للنظر، ويكشف عن علاقات متنوعة بين الاسم الجليل وطوائف أخرى داخل السورة.
فالآية محل البحث جاءت في الوسط بين ذكر السحرة وإيمانهم وثباتهم وبين الحديث عن بني إسرائيل،وألمح مقارنة في السياق بين السحرة الذين تابوا وأنابوا بمجرد رؤيتهم آية واحدة من آيات الله وهي تَلَقُّف عصا موسى لعصيهم، وبين بني إسرائيل الذين رأوا الآيات تترى وعند أول اختبار، وذهاب موسى،عبدوا العجل.
ولنعد إلى ترتيب الآيات لتوضيح ذلك: يقول الله تعالي في شأن السحرة:
- فألقى السحرة سجداً قالوا آمنا 000
- قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ...
- إنه من يأت ربّه مجرماً فإنه له جهنم ...
فكل آية من هذه الآيات تشير إلى شرط من الشروط المصاحبة لاسمه (غفار) فقوله (وإني لغفار لمن تاب) يشير إلى فعل السحرة حين أُلقوا سجداً00
وقوله: (وآمن) يشير إلى قولهم [إنا آمنا بربنا]
وقوله [وعمل صالحاً] يشير إلي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قولهم:
(إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم ... )
ومن خلال هذه العلاقات يمكن فهم الآيات التالية لبني إسرائيل على أنها تبكيت لهم وتذكير بفعل السحرة، حيث قيل لهم: [يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ... الخ
ولذلك لم يعقب على الحديث معهم بأنه غفر لهم، فلما عبدوا العجل ورجع إليهم موسى وقف السياق عند قوله (إنما ألهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً) دون تعقيب على فعلهم بشيء، فلقد انتقل السياق إلى خطاب النبي e وقيل له (كذلك نقص عليكم من أنباء ما قد سبق ... ).
فكأن القصة كانت مقارنة بين السحرة وبني إسرائيل، بين قوم تابوا وآمنوا وعملوا صالحاً، وقوم ارتدوا وأنكروا من بعدما رأوا الآيات ومن هنا ينتقل اسمه (غفار) ليلتصق بالسحرة، والعلاقة بينهما لا تخفي فالاسم يدل علي كثرة المغفرة، وكثرة المغفور لهم.
والسحرة من حيث العدد كما جاء في بعض الروايات [كانوا خمسة عشر ألف ساحر]
ومن حيث الفعل فالسحر من الموبقات فناسب ذلك كله المجئ بهذا الاسم (غفار) ليشمل الكثرة في العدد، والكثرة في الذنوب أما كثرة المؤكدات في الجملة، فلأن السحرة لم يعملوا عملاً لله تعالي إلا عظتهم لفرعون، فما لبثوا أن آمنوا حتى قتلوا، وصحائفهم ملأى بالسحر، وإغواء الناس من أجل ذلك تأكدت الجملة وقيل (وإني لغفار).
¥