الله أكبر كلّما ضجَّت الأصواتُ بالدعوات، الله أكبر كلّما تقرَّب العابدون بالصالحات، الله أكبر كلَّما تعرَّضوا لنفحاتِ الرحمن في عرفات، وكلّما سفَحت الأعين هنالك من العَبَرات، الله أكبر كلَّما تعاقب النورُ والظلُمات، الله أكبر عددَ ما خلق في السماء، الله أكبر عدَدَ ما خلَق في الأرض، الله أكبر عدَدَ كلِّ شيء، الله أكبر ملءَ كلِّ شيء، الله أكبر عدَدَ ما أحصاه كتابه ومِلءَ ما أحصاه كتابه.
الحمد لله ربِّ العالمين، أعزَّ بطاعته المتّقين، وأذلَّ بمعصيته الفاسقين، الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. أشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، بعثه الله بين يدَيِ الساعة رحمةً للعالمين، لينذِر من كان حيًّا ويحقَّ القول على الكافرين، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تفلحوا، وأطيعوه تهتَدوا.
عبادَ الله، إنَّ يومكم هذا يومٌ فضيل وعِيدٌ عظيم جليل، يجتمع فيه الحاجّ بمنى، يكمِّلونَ أنساكَ حجّهم، ويذبحون قرابينَهم للإله الحقّ لا ربَّ غيره، إِحياءً لسنّة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشرعِ نبيِّنا محمّد، فقد أمر الله خليلَه إبراهيم بذبحِ ابنه الوحيد إسماعيلَ عليه السلام، فبادَرَ إلى ذلك مُسارِعًا، وأتى الأمر طائعًا، فلمّا أضجعه للذّبح سلَب الله السكينَ حدَّها، وعالج الذّبحَ بالسّكّين فلم تنفُذ في الرقبة، فلمّا اطَّلع الله على العزمِ الأكيد واليقينِ الوَطيد فدى الله إسماعيلَ عليه السلام بذِبحٍ عظيم، وفاز الخليلُ عليه الصلاة والسلام في هذا الابتلاء، وحقَّق درجةَ الخلّةِ التي لا تقبَل الشّرِكة، فأراد الله أن تكونَ خلّةُ إبراهيم خالصةً لله، لا يشاركه فيها محبّةُ الولد، والمحبّةُ والذلّ والانقياد هي العبادَة.
وقد وفَّى مقامَ الخلّةِ أيضًا سيّدُ البشر نبيّنا محمّد، فقد اتخذه الله خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً. رواه البخاري [1].
ووَقفَ العالَم مطَّلِعًا على هذا الابتلاء لأبينَا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ورَوَتها الأجيالُ من جميعِ الملَلِ عبرَ التاريخ، معظِّمين هذا الإيمانَ الأعلى، وكان ذبحُ أبينا إبراهيم لفِداءِ ابنِه الذي فُدِي به من الرّبِّ تبارك وتعالى، كان سُنّةً في بنيه في هديِ الحجّ وأضاحي المسلمين.
جاء في فضلِ الأضحية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ: ((ما عمِل ابن آدم في يومِ أضحَى أفضل من دم يُهراق إلا أن يكونَ رحِمًا يوصَل)) رواه الطبراني [2]، وعن أبي سعيد الخدريّ عن النبي قال: ((يا فاطمةُ، قومي إلى أضحيتك فاشهدِيها، فإنّ لك بكلِّ قطرةٍ من دمها أن يغفرَ لكِ ما سلف من ذنوبك))، قالت: يا رسولَ الله، ألنا خاصّة أهلَ البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين)) رواه الطبراني والبزار [3].
واعلَموا أنّ الشاةَ تجزئ في الأضحية عن الرجل وأهلِ بيته، وتجزئ البدنةُ وهي الناقة عن سبعة، والبقرة عن سبعةٍ، ولا يجزئ من الضّأن إلا ما تمّ له ستّةُ أشهر، ولا من المعزِ إلاّ الثني وهو ما تمَّ له سنة، ولا يجزِئ من الإبل إلا ما تمَّ له خمس سنين، ولا من البقَر إلا ما تمّ له سنتان.
ويُستَحَبّ أن يتخيَّرها سمينةً صحيحة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّن مرضُها، ولا العوراء، ولا العجفاء وهي الهزيلةُ، ولا العرجاءُ البيِّن ظلَعها، ولا العَضباء التي ذهب أكثرُ أُذنها أو قرنِها، وتجزئ الجمّاء والخصيّ.
والسّنّة نحرُ الإبل قائمةً معقولةَ اليدِ اليسرى، ويقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهمّ هذا منك ولَك.
ويُستحَبّ أن يأكلَ ثُلُثًا، ويهدِيَ ثلثًا، ويتصدَّق بثلُث، ولا يعطي الجزارَ أجرتَه منها.
ووقتُ الذبح بعد صلاةِ العيدِ ويومان بعده باتفاق أهل العلم، واليومُ الذي بعد ذلك فيه خلاف بينهم، والأرجح جوازه.
عبادَ الله، تذكَّروا ما أمامَكم من الأهوالِ والأمور العِظام بعدَ الموت، وتفكَّروا فيمَن صلَّى معكم في هذا المكان في سالِفِ الزمان من الآباء والأحبَّة والإخوان، كيف خلَّفوا الدّنيا ووَارَاهم التّرابُ وانصرَفَ عنهم الأحباب، ولم ينفَعهم إلا ما قدَّموا، ولم يلازِمهم إلا ما عملوا، يتمنَّونَ استدراكَ ما فرط وفاتَ، وأنَّى للحياة الدنيا أن ترجِعَ للأموات؟!
وتفكَّروا في القرونِ الخالية العظام الشداد، الذين غرَسوا الأشجارَ، وأجرَوا الأنهار، واختَطّوا المدنَ والأمصار، وتمتَّعوا باللّذّات في طول أعمار، كيف نقِلوا إلى ظلُمات اللحود ومراتِع الدود، وإن ما أتى على الأوّلين سيأتي على الآخرين.
فأعِدّوا للحياةِ الطيّبة الأبديّة، ولا تركَنوا لحياةِ النّصَب والمكارِه والأذيّة، فليست السعادةُ في لبسِ الجديد ولا في أن تأتيَ الدنيا على ما يتمنَّى المرءُ ويريد، لكنّ السعادةَ والله في تقوى الله عز وجل والفوز بجنّة الخُلد التي لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، والنجاة من نارٍ عذابها شديد، وقعرها بعيد، وطعامُ أهلِها الزقّوم والضّريع، وشَرابهم المهلُ والصّديد، ولِباسُهم القطِران والحديد.
عبادَ الله، اشكروا ربَّكم على ما منَّ الله به عَليكم في هذه البلادِ من الأمن والإيمان وعافِيةِ الأبدان وتيسُّر الأرزاقِ وتوفُّر مرافق الحياةِ وانطِفاء نارِ الفِتن المدمِّرة، واستديموا نعَمَ الله بشُكرِه وطاعته.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال: ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كبيرًا. اللهمّ ارض عن الصحابة أجمعين ...
¥