: «كان له أبقى الأثر ... كان يلقي الكلمة، فيصيب حبات القلوب منا، وأنا قد نسيتُ أكثرَ ما سمعتُ من دروس المدرسة ولكن أمثال هذه الكلمات التي تأتي في موضعها وتقترن بمناسبتها لا تزال في أذني، وفي قلبي» (3).
ويبقى الإخلاص ويقظة الضمير عامل تأثير لدى المعلمين، لا يبرح نفوس التلاميذ.
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي عن أستاذه في المرحلة الابتدائية
: «في هذه السنة تعرفت على أستاذ جليل كان يدرس لنا مادة المحفوظات. وكانت هذه الحصة حصة للراحة لمن يأخذها من المدرسين، ولكن هذا الأستاذ حوَّل هذه الحصة إلى محفوظات حقيقية، في كل أسبوع يختار لنا قطعة من النثر أو الشعر لنحفظها ويسوقنا بالترغيب والترهيب لحفظها ... وهكذا كانت دروس المحفوظات دروسًا في الأدب والتربية والسلوك» (4).
ولو قُدّرَ لنا أن نطلع على شعور القرضاوي وزملائه التلاميذ أيامها، ربما لاكتشفنا أنهم كانوا يؤثرون الراحة التي تعودوها في هذه الحصة وأشباهها، غير أن الإخلاص على ما فيه من المشقة، يبقى وجهًا جميلًا تزيده السنوات جلاءً وإشراقًا.
أما التمكن من مادة التدريس، وسعة العلم، والإحاطة.
ويقول العقاد عن أستاذه
: «كان هذا النابغة الألمعي أوسع من لقيت محفوظًا في الشعر والنثر، كان يطارح وحده خمسة أو ستة من القضاة والمدرسين والأدباء!» (5).
وعن سعة علم أحد معلميه وإحاطته يقول الشيخ يوسف القرضاوي: «كان يتدفق في معارفه كأنما يغرف من بحر، ويبهر سامعه كأن كلامه السحر، ويشرح الدقائق فيجليها، والغوامض فيكشف عن خوافيها، ويبين عن معانيها. لقد كنت أستمع إليه، وأنا معجبٌ متابع ... فقد أحاط بعلوم الدين من التفسير والحديث والتوحيد والأصول والفقه، وبعلوم اللغة من النحو والصرف والبلاغة، وبالأدب وتاريخه، وبالعلوم الإنسانية العصرية» (6).
وهذا أسلوب المعلم في الصف يجعله محل احترام تلاميذه، حتى الذين احترفوا التدريس فيما بعد، فهذا الدكتور كمال الصليبي، يتحدَّث عن أحد معلميه، فيقول: «كان يُلقي علينا المحاضرات باللغة الإنكليزية، بطريقة دراماتيكية ممتعة خاصَّة به، حيث كان يقوم بتمثيل الأحداث، ولعب مختلف الأدوار فيها، بأسلوب لا مثيل له، وهو يتكلم بصوت خافت يضطرنا إلى الهدوء الكامل لسماعه» (7).
ويتحدَّث الشيخ الطنطاوي بإعجاب شديد عن إحاطة أحد معلميه بعلم الحديث فيقول: «كان آية في معرفة علوم الحديث» (8).
وعن أستاذ الخط يقول: «ولقد كان أستاذًا عبقريًا في الخط، والذي تركه من آثاره شاهد عدل على ما أقول ... كان يبري أقلام القصب لأربعين أو خمسين تلميذًا ويكتب لنا (المشق) لنَخطَّ مثله ... ويصحّح ما كتبنا كل ذلك في (الحصة) وهي أقل من ساعة» (9).
ويصف معلمًا آخر فيقول: «كان الإمام في اللغة، والمرجع فيها، قَيَّد أوابدها وجمع شواردها، وحفظ شواهدها، وكان أعلم العرب بالعرب، عرف أيامهم وروى أشعارهم ... دَرَّسَنا السيرة فجاء بشيء ما رأيت والله ولا سمعت بمثله، يصور الوقائع، ويصف أمكنتها، ويشرح ما قيل فيها، ويدل على مراجعها، فكأننا كنا فيها» (10).
ويتحدَّث الدكتور إحسان عباس عن أستاذ التربية وعلم النفس في الكلية العربية بالقدس
فيقول: «شخصية الأستاذ في تأثيرها كانت أقوى من الكتب، وكان أستاذًا مرنًا لا يتجمد عند حرفية التعليمات التربوية» (11).
ويصف الشاعر العراقي معروف الرصافي سعة علم أستاذه فيقول: «والحق (أنه) كان من المتضلعين في العلوم العربية من صرف ونحو وبلاغة وبيان وعروض وغير ذلك من علوم العربية» (12).
وبالحب يملك الأستاذ قلوب تلاميذه، فهذه فدوى طوقان، تشعر بحبّ معلمتها لها قبل أن تبادلها بحبها حبًا أعمق وأكبر، فتقول: «أحبَّتني معلماتي وأحببتهنَّ، وكان منهن من يؤثرنني بالتفات خاص. أذكر كيف كان يشتد خفقان قلبي كلما تحدثت معي معلمتي المفضَّلة، والتي أحببتها كما لم أحب واحدة من أهلي، في تلك الأيام!» (13).
¥