أما حُسنُ الخلق فتلك الهبة الربانية التي يمنحها الله لمن يشاء من عباده، وقد وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلَّم بهذه الصفة على وجه الثناء فقال تعالى:} وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم {(14) وكان صلى الله عليه وسلَّم يقول: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا» (15) وقد اشتهر بحسن الخلق بعض المعلمين، حتى أسبغ تلاميذهم عليهم أوصافًا تشبه الخيال، وحسبنا أن نشير إلى ما كتبه اثنان من كبار الكُتاب عن أستاذ واحد، حتى لكأنهما يكتبان عن شخصية أسطورية، حين يقول عنه الدكتور عبدالرحمن بدوي: «لقد كان النبل كله، والمروءة كلها. كان دائمًا هادئ الطبع، باسم الوجه، لا يكاد يغضب، وإن غضب لم يُعبّر عن غضبه إلا بحمرة في وجهه وصمت كظيم: لقد كان آية في الحلم والوقار. لكنه وقارٌ عفوُ الطَّبْع ...
وكان آية في الإحسان إلى الآخرين، ما لجأ إليه مظلوم إلا حاول إسعافه، أو صاحب حاجة إلا بذل ما استطاع حتى لو كان من ماله» (16).
وعن هذا المعلم نفسه يقول الروائي نجيب محفوظ: «هو مثال للحكيم كما تتصوره كتب الفلسفة، رجل واسع العلم والثقافة، ذو عقلية علمية مستنيرة، هادئ الطباع، خفيض الصوت لا ينفعل ولم أره مرة يتملكه الغضب» (17).
بربكم أيملك إنسان-فضلًا عن تلميذ- نفسه أمام هذه السجايا دون أن يمحض صاحبها الحُبَّ والإجلال؟!
أما التشجيع والتوجيه والتأثير في التلاميذ، فتلك خلاصة النجاح، وذروة سنامه، وما أكثر ما يعزو الناجحون نجاحهم إلى معلمين أخذوا بأيديهم، توجيهًا ونصحًا وتأثيرًا! ولنقرأ بعض تلك الشهادات التي توَّج بها التلاميذ إخلاص مُعَلميهم، ومن ذلك قول الدكتور سهيل إدريس عن أستاذه في الأدب: «هو الذي بثَّ فيَّ حُمَيَّةَ الأدب، وكان له أسلوبٌ تشويقي جميل، وكان كاتبًا معروفًا وقد تأثرتُ به وبكتابته» (18).
ويقول الشاعر عبد الوهاب البياتي:
«وما زلتُ أذكر مُدَرّسَ اللغة العربية ... كان من المتحمسين للقضية العربية فكان يُلقي كلمات حماسية في المناسبات المدرسية، وحين عرف بقدراتي الأدبية، دعاني إلى إلقاء بعض القصائد ... لقد لَعبَ هذا المدرسُ دورًا كبيرًا في خلق جيل معاد للاستعمار وبثّ الحماسة القومية لدى الطلاب .. » (19).
ويتحدث الأديب والروائي جبرا إبراهيم جبرا عن أستاذه في اللغة العربية فيقول:
«كان لحُبه اللغة، يُعْدينا بما يُحبُّ، ولا يَقْصُرُ درسَهُ على المقرر، لتلك السنة، لقد علمني من قواعد اللغة في سنتين، أو أكثر بقليل، ما لم أتعلم من أحد سواه، وما بقي أساسيًا حتى اليوم في تعاملي مع الكتابة» (20).
وفي لقاء مع الإذاعي الشهير ماجد الشبل، يقول عن تشجيع أحد معلميه: «لقد التقط موهبتي منذ البداية، وعرف ولعي الشديد باللغة العربية، فأخذ يُشجعني حتى الثانوية» (21).
ويبلغ التشجيع بأحد المعلمين أن يمدح تلميذه شعرًا، ويتنبأ له بمستقبل باهر، وقد تحقق له ذلك، هذا ما فعله أحد معلمي أحمد الشرباصي، حين لاحت من تلميذه بشائر النجابة، والنبوغ فقال:
قبسٌ من الإصلاح لاحَ بصيصه
سيزيدُه كرُّ المدى إشعالا
وإذا رأيتَ الفجرَ يبسمُ ضوؤهُ
فارقبْ لأنوار الضحى إقبالا
فالبحرُ ماذا كان؟ كان جداولًا
والبدرُ ماذا كان؟ كان هلالا
والأُسدُ في وَثَبَاتها وَثَباتها
درجتْ على آجامها أشبالا (22)
ويتحدَّث الدكتور غازي القصيبي عن معلم اللغة العربية في المرحلة الثانوية، فيقول:
«كان مُدرس اللغة العربية قارئًا موسوعيًا، وكان اطلاعه على آداب اللغة العربية يدعو إلى الدهشة، سُرَّ الأستاذ بطالبه الموهوب، وسرعان ما نشأت بين الاثنين علاقة تشبه علاقة الابن بأبيه، يستمد الطالب/الابن منها الكثير من الثقة بالنفس والاعتزاز بالموهبة، ويستمد المدرس/الأب منها الكثير من السرور المشوب بالفخر» (23).
وهكذا يُتم هذا المعلم ما سَبَقَ أن بدأه معلم القصيبي في المرحلة الابتدائية الذي قال عنه: «لقد كان من أسباب تعلقي بالأدب التشجيع الذي لقيته من أحد مدرسينا في تلك الفترة ... كان قارئًا ذواقة يحب القصص ويجيد روايتها، وكان المشرف على النشاط المسرحي بالمدرسة، ولا تزال في مكتبتي حتى اللحظة قصص تلقيتها منه كهدايا تشجيعية في مختلف المناسبات» (24).
¥