ـ[نُورُ الدِّين ِ مَحْمُود]ــــــــ[19 - 11 - 2010, 02:15 ص]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عادة قبل أن أضبط أتأمل النص لفهم المعاني، وفي هذا النص معانٍ عظيمة هي من أخلاق المسلمين، فأحببت أن أقتبس لكم شيئا من كتاب "حق المال في الجاهلية وسبل أدائه في الشعر الجاهلي" وما ذاك إلا لتعم الفائدة ...
استهل الشاعر قصيدته بالحديث عن زيارة طيف أسماءَ له. وقد أثار الطيف حنينَه، فراح يشرح هواه وأشواقه على الطريقة الجاهلية في الغزل. وزيارة طيف الحبيب ومناجاتُه أسلوب من أساليب الغزل عند الجاهليين.
ثم شرع في الفخر، فذمّ البخلَ الذي يَشين أخلاق الرجال. وهو الكريم العارف بالنوائب التي تنوب ماله في الأزمات، والملتزم بالحقوق الواجبة عليه فيها. ونقف عند قوله في هذا المعنى:
وإني كريم ذو عيال، تهمّني
نوائبُ يغشى رُزْؤُها وحقوق
ونلقى هنا كلمة» الحقوق «التي عرفناها آنفاً في معناها الاجتماعي الإنساني.
ومضى الشاعر في الفخر. ورسم صورة مفصلة كاملة لأداء أحد هذه الحقوق. وهي صورة استقبال الضيف الطارق في ليل الشتاء، وحسنِ القيام على إطعامه وإيوائه. وهي صورة إنسانية رائعة، تنطق بداعي الخير، وتُبْرز جمال التعاون والتكافل والتقارب بين الناس، وجدواها في تحقيق السعادة والبقيا على الحياة الإنسانية.
وقد جاءت الصورة غنية، قوية الإيحاء والتأثير. وفَّرَ لها الشاعر كل عناصر الثراء الغني، في إطار مثير للقلق والشفق على حال الضيف الطارق. فقد جعله ضالاًّ في ليلة عاصفة عاتية من ليالي الشتاء، فيها برد، ورياح تلف ثوبه، وبروق ورعود تُرْعِش فؤاده، مع معاناة الجوع والخوف في نفسه. فهو ليس بحاجة إلى المأكل وحدَه، بل يحتاج أيضاً إلى المأوى والأمان والطمأنينة. وفي هذه الحال الصعبة والأمر العصيب تلقّى الشاعر ضيفَه الطارقَ بالترحاب، فأحسن استقباله، وبَشّره بالخير، وأشعره بالأمان في قوله الجميل:
فقلت له: أهلاً وسهلاً ومرحباً
فهذا صبوح راهن وصديق
ونلاحظ أن الشاعر قصد أن تكون الصورة في زمن الشتاء. وهو زمن العسرة والشدة وقلة القوت في بيئة جزيرة العرب. فأغناها بذلك، وزادها عمقاً وتلويناً، وأعطاها بعداً إنسانياً، يهزّ النفوس، بالرمز إلى أن الجود بالقوت أفضلُ وأصعبُ في زمن العسرة والقلة في الشتاء. والعطاء حينئذ يكون أمراً شاقّاً عسيراً على النفس، لا يطيقه إلا كل امرئ أوتي حظاً وافراً من سمو النفس والأريحية كما قلنا. أما العطاء مع السَّعة والجِدَة، فأمر سهل يسير، يركبه كل من استطاع إليه سبيلاً. وفي هذه الحقيقة قال أبو الطيب المتنبي:
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُّهمُ
الجود يُفْقِر، والإقدام قَتّالُ
ثم أخذ الشاعر في بيان قيامه على قرى ضيفه وإيوائه في حفاوة واهتمام. فنحر له أكرم ناقة في إبله، وأطعمه الشواء وسقاه اللبن، حتى أشبعه من جوع، وأرواه من ظمإ، وآمنه من خوف. وشعر حينئذ بالرضى والراحة في نفسه، لوفائه بحق الجود وأدائه الواجبَ الإنساني. فانطلق لسانه يعبّر عن رضاه وراحته من فعل الخير بقوله الجميل:» ولِلْخيرِ بين الصالحين طريق «. ودَعَمَ هذا القولَ بالآبدة الشاردة الرائعة:
لَعَمْركَ، ما ضاقتْ بلاد بأهلها
ولكنّ أخلاقَ الرجال تضيق
فبلغ الذروة العليا في علوّ النفس؛ كما بلغ الإعجاز في التعبير البياني الفني. فهذا البيت الواحد من الشعر الإنساني البليغ الوجيز، لهذا الأعرابي الجاهلي، يختصر في كلماته القليلة فلسفةً كاملة، تكشف عن سرّ مأساة الإنسان وعذابه في دنياه. فالعِلّة في هذا العذاب ليست في الأرض والبلاد، وإنما هي في أخلاق الإنسان، في طمعه وجشعه، وفي ضلاله عن سبيل الحق والخير والجمال.
وختم الشاعر قصيدته بالافتخار والتنويه بآبائه وأجداده الكرام العظام الذين أورثوه المكارم والفضائل. وكانوا هم الأصلَ الأصيلَ لخصال الخير ومجده الرفيع.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن الشاعر يفتخر بنفسه في فعل الخير وأداء الحق. ولكنه في نتيجة الأمر يرتفع إلى مستوى أعَمَّ وأعلى، لأنه يَعْبُر من خلال موقفه الفردي، ويدعو إلى موقف إنساني عام شامل. تلك هي قوة الفن الجميل، وأثرُه الأصيل في تحقيق سعادة الإنسان. وفي الحقيقة ليس مثل هذا الفخر عند شعراء الجاهلية إلا دعوةً دائمة للناس أجمعين، ونداءً أزلياً لهم لفعل الخير والعطاء وعون الإنسان أخاه الإنسان.
ونرى في أشعار هؤلاء الشعراء شواهدَ كثيرة من أمثال هذه الصور التي قرأناها، وهي تدور حول بذل» حق المال «لِرِفد الفقراء وعون الضعفاء، وإنعاش الجيران وقِرى الأضياف والغرباء المحتاجين من الناس. وقد وردت هذه الأشعار في شتى أغراض الشعر ومعانيه، من المفاخر والمدائح والمراثي وغيرها. قالها الشعراء في أحوال ومواقفَ مختلفة. وعبّروا عن معانيها وصورها في أساليب ومعارضَ عديدة حسب طباعهم وقرائحهم الشعرية. وهم قد يذكرون في أشعارهم كلمة» الحق «أو» الحقوق «كما رأينا، أو لا يذكرونهما. ولكنهم يقولون دائماً ما يؤدي معنى بذل» حق المال «وما يرمز إليه من الكنايات والاستعارات المجازية.
تالله لو أعلم أن هناك نقدًا إبداعيًا لتلك القصيدة بهذا الجمال لوضعتها هنا منذ زمن، فتلك القصيدة من أعظم القصائد التي قرأت، دعوني أقول لكم لو أن عمرًا اكتفى بالبيت الذي هو عنوان القصيدة "لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها،،، ولكن أخلاق الرجال تضيق" لكفاهُ إبداعًا فكما تفضلتم من خلال النص المقتبس من هذا الكتاب الرائع الذي نهلتم لنا منه قمة الإبداعية في هذا البيت جزالة حقًا تعبر عن معنى عظيم، شكرًا أستاذة عصماء على هذا الاقتباس الذي زاد القصيدة جمالًا.
¥