تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومما يدل على دقة معرفتهم بأحاديث الرواة، وقوفهم على عدد الأحاديث التي رواها الراوي، فكانت عندهم إحصاءات دقيقة تحصلت عندهم نتيجة جمع أحاديث كل راوٍ ودراستها، فإذا ما وجدوا حديثاً خارجاً عنها نبهوا على ذلك وبينوه، فمن أمثلة ذلك قول يحيى بن معين في أفلح بن سعيد الأنصاري: ((ثقة يروي خمسة أحاديث)) ()، وقول علي ابن المديني في أيوب بن أبي تميمة السختياني: ((له نحو ثمان مئة حديث)) ()، وقوله في جامع بن شداد المحاربي: ((له نحو عشرين حديثاً)) ().

ويمكن للباحث أن يتأمل القدرة العظيمة لهؤلاء النقاد الجهابذة وما قاموا به من دراسات معمقة لأحاديث الرواة من النص الآتي الذي يشير إلى دراسة أبي زرعة الرازي لأحاديث عبدالله بن وهب حينما يقول: ((نظرت في نحو ثلاثين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر وفي غير مصر، ما أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له)) ().

ومثل هذا المثال له عشرات نظائر يمكن أنّ يسوقها الباحث للتدليل على هذا الأمر.

على أن هذا لا يعني البته عدم إمكانية أن يخفى على بعضهم الشيء بعد الشيء، فهم بشر يعتريهم ما يعتري كل إنسان من الغفلة وعدم الإحاطة، من نحو ما رواه عبدالرحمن بن أبي حاتم، عن أحمد بن عبدالرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: سمعت عمي يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي، قال رأيت رسول الله ? يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه، فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع)) (). فهذا أحد الجهابذة قد فاته هذا الحديث.

على أنه يكان أن يكون مستحيلاً أن يخفى حديث على مجموع العلماء الجهابذة المتقدمين، وإلى مثل هذا أشار الإمام الشافعي في كتابه العظيم ((الرسالة)) حيث قال: ((ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثر ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب وأكثرها ألفاظاً، ولا نعمله يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء. فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرِّق علم كل واحد منهم: ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره. وهم في العلم طبقات؛ منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره)) ().

هذا والإمام الشافعي قد عاش في النصف الثاني من المئة الثانية ((150 - 204هـ))، فما بالك بجهابذة المئة الثالثة؟

وقد بين أستاذنا الدكتور بشار عواد معروف في مقدمته لتاريخ مدينة السلام أن المئتين الثانية والثالثة شهدتا ((نهضة لا مثيل لها في جمع السنة النبوية الشريفة وتتبعها وتدوينها وتبويبها على أنحاء شتى من التنظيم والتبويب مما تعرفه أمة من الأمم، فكان ذلك خصيصاً بهذه الأمة الإسلامية، وهيأ الله سبحانه مئات الحفاظ الجهابذة الذين حفظوا ودونوا مئات ألوف من طرق الأحاديث، ورحلوا من أجلها إلى البلدان النائية، وطوفوا في البلدان شرقاً وغرباً ليصدروا عن خبرة وعيان وسألوا عن الرواة واطلعوا على مروياتهم ومدوناتهم ومحفوظاتهم، فجمعت النسة في صدور الحفاظ وفي كتاباتهم. ثم غربلوا ما كتبوا من مئات الآلوف وانتقوا منه ما يمكن أن يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، أو يحتمل أن يكون من كلام النبي ?، كل بحسب اجتهاده ومنهجه، فتوسع البعض واقتصر الآخر على أنواع معينة، ودوِّن كل ذلك في المصنفات والجوامع والمسانيد والسنن، فان كان فات بعضهم الشيء منها فما كان ليخفى على مجموعهم، وهم يتذاكرون المتون والأسانيد بينهم)). وقال أيضا: ((ومما لا شك فيه أن الطرق التالفة والواهية التي وقع فيها الغلظ الفاحش أو الشذوذ البين، أو النكارة الشديدة، أو الاسانيد المركبة على أحاديث صحيحة، أو الأسانيد المركبة على متون منكرة، أو الموضوعات من أحاديث الكذابين والمتروكين والهلكى قد أهملت من قبلهم، ولم يدخل معظمها في كتبهم المصنفة أو مجاميعهم المبوبة، سواء أكانت مصنفات أم مسانيد، أم جوامع، أم سنن. وللقارئ أن يتصور الجهد الهائل الذ بذله هؤلاء الأئمة الجهابذة في تصفية هذه الطرق والمتون، حينما يعلم مثلاً أن الإمام أحمد أخرج مسنده من جملة سبع مئة ألف حديث ()، وأن مسنده بحدود الثلاثين ألف طريق فقط، وأن البخاري أخرج كتابه ((الصحيح)) من زهاء ست مئة ألاف حديث ()، وأحاديثه بالمكرر بحدود السبعة آلاف وخمس مئة حديث فقط، وذكر مسلم بن الحجاج أنه صنف ((صحيحه)) من ثلاثة مئة ألف حديث مسموعة ()، وكتب يحيى بن معين ست مئة ألف حديث ()، والروايات في هذا الأمر معروفة متواترة)) ().

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير