فهناك عدد هائل من النصوص التي لا تدخل في نطاق ما يعرب بـ "الثقافة العالمة" ظلت مغيبة ومهمشة، وللأسف الشديد، كثير منها ما يزال إما حبيس الخزانات العامة أو الخاصة، وأغلبها ما يزال موجودا في المكتبات الأوربية. ومن العجب أن من يريد البحث الجاد والعلمي الرصين في التراث العربي، عليه أن يكون مقيما بإحدى العواصم الغربية، أو عليه أن يتوجه إليها حيث ذخائر من التراث العربي، لا يعرف عنها العربي شيئا. ومن الأعجب أن نطلع على جزء هام من التراث مترجما إلى الفرنسية مثلا، ولا نعثر عليه بالعربية.
ويمكننا أن نتساءل، لإبراز قيمة التحقيق وإيجاد النصوص ودورها في تطوير معرفتنا بتاريخنا وثقافتنا، ماذا كانت ستكون عليه معرفتنا بتراثنا الشعري والأدبي والفكري لو لم تبذل مجهودات في تحقيق التراث منذ أواخر القرن الماضي؟ وينسحب هذا السؤال بصورة خاصة على تراث مناطق من جغرافية العالم العربي التي ما تزال العديد من إنجازاتها غير محققة كما نجد بصدد اليمن وعمان والمغرب والأندلس وموريطانيا ... هل تطورت معرفتنا بهذا التراث، وماذا يعرف عنه ذووه؟! ... وإذا كان ما حاولنا تشخيصه ينسحب على التراث المكتوب فهو ينسحب أكثر على الثقافة الشعبية، وعلى مختلف الإنجازات غير اللفظية.
وأولى المهام المطروحة في سبيل وعي جديد بالأدب والتراث تكمن في الانطلاق من:
1_ عدم التمييز بين النص القديم والنص الحديث بطريقة معيارية ترتهن إلى أن أحدهما أفضل وأوجب بالبحث من غيره.
2_ التسليم بأن ما نعرفه بصدد التراث العربي _ الإسلامي هو قليل جدا، كما أن معرفتنا بالتراث الشفاهي في مختلف المناطق العربية، وبمختلف أشكال التعبير واللغات ما يزال ناقصا، وعندما نربط ذلك بما يتعلق بالأجيال الصاعدة نجد أن صلتهم به منعدمة، وإن كانت فهي ناقصة وسطحية.
3_ عدم التمييز بين "الايجابي" و "السلبي" من التراث، فنذهب إلى أن هذا أحسن من هذا؟ وهذا الوعي ساد لفترة طويلة من الزمان، سواء لدى الإسلاميين أو الماديين وما يزال هناك من ينتصر له، وينافح عنه.
إن معرفة هذا التراث، ومن كافة جوانبه، وفي مختلف إبداعاته وتياراته هو الرهين بتحصيل وعينا به وفهمنا له. أما الحكم عليه إيجابا وسلبا، فهو رهين أولا بالتعرف عليه ودراسته، وليس بالمصادرة المسبقة والجازمة.
إن تجاوز هذا الوعي التقليدي هو الكفيل بتقديم رؤيتنا ووعينا بهذا التراث. وهو الكفيل أيضا بجعل:
1_ المحقق يضطلع بدوره الكامل، ولا سيما إذا تم إعداد هؤلاء المحققين إعدادا مناسبا.
2_ تجاوز العمل الفردي في التحقيق حتى لا يبقى نزوة خاصة بالمحقق.
3_ تشكيل لجان للعمل الجماعي تقوم على الدراية والتخصص، وتضع لنفسها جدولا للعمل، ونصوصا محددة تقوم بترتيبها، وتضطلع بتحقيقها في آجال محددة.
ما قلناه عن المحقق ينسحب بدرجة كبرى على المترجم. إن عمله مهم جدا في جعلنا نتفاعل مع ثقافة الآخر إبداعا ونقدا وبحثا. تتقدم عملية الترجمة في المغرب، ويضطلع بها باحثون ودارسون قدموا نماذج مهمة من التراث الأدبي النقدي الفرنسي خاصة والإنجليزي بدرجة ثانية. لكن المشاكل التي تحدثنا عنها بصدد التحقيق هي عينها التي نجدها في الترجمة. ذلك لأن الترجمة ما تزال "هواية" مشتغلين بالأدب، وليست عمل متخصصين في مجالات محددة، يترجمون بناء على خطة محكمة تنطلق من تحديد القيمة التاريخية للنص المترجم، ومن ريادته في مجال اختصاص محدد.
إن الترجمة ما تزال إلى حد بعيد تنطلق من تعاطف المترجم مع النص، وتقديره الشخصي له. ولعل هذا العامل رغم حيويته يؤثر على العملية إذ يجعلها تنهض على أساس المزاج الخاص بالمترجم، وليس الضرورة التي تقتضي ذلك. ويبدو لنا ذلك بجلاء في كون الكتاب الواحد أو المقالة الواحدة تترجم من قبل العديدين في أقطار العالم العربي، في حين نجد دراسات أخرى أكثر راديكالية وتأسيسية لا يتم الانتباه إليها.
يسمح هذا التأطير والتنظيم بتوحيد ومناقشة مسألة مركزية نجمت عن عملية الترجمة وهي مشكلة "توليد" المصطلح. وبدون تضافر الجهود وتوجيهها نحو العمل الجماعي لا الفردي، لا يمكن لمشكلة المصطلح إلا أن تتفاقم وهي بالمناسبة أم مشاكل الدرس الأدبي العربي الحديث، ولا سبيل إلى الخروج منها إلا بتجاوز ذهنية المفاضلات الشخصية، والانتصار الذاتي والنرجسي للأعمال الخاصة، وعدم الاعتراف بمجهودات الآخرين، وإنكارها جملة وتفصيلا.
إن التواضع العلمي في هذا المجال ضرورة ملحة لتجاوز التعصب الذاتي لما يقوم به هذا المترجم أو ذلك، وهو المدخل الملائم لإعطاء عملية الترجمة كامل أبعادها التواصلية والمعرفية والعلمية.