فأيّ هذه الألفاظ يصلح لترجمة ذلك اللفظ الوارد في مقام البشارة والمدح والثناء على مولود، علم الله أنه يكون رسولا نبياً، أباً لأمة عظيمة، ولأفضل خلق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لاشك أن اللفظ الوحيد الذي تصح به الترجمة هو الثالث، وهو أنه ساكن الصحراء وهو المطابق للواقع، فإن إسماعيل كان يسكن بمكة - شرفها الله - ويعيش في الصحراء على لحم الصيد، وفي الحديث: "ارموا بني إسرائيل، فإنّ أباكم كان رامياً ", وفي صحيح البخاري أنّ إبراهيم توجّه لزيارة ابنه إسماعيل في مكة فلم يجده، فسأل زوجته عنه فأخبرته أنه ذهب للصيد، ثم ذهب لزيارته مرة ثانية وثالثة فلم يجده، إنه كان غائباً يصطاد للمعيشة لا للتنزه، وفي كل مرة كان يوصي زوجته بشيء تقوله له إذا رجع.
وقد تبيّن أنّ أولئك المترجمين أخطأوا خطأ فاحشا في ترجمة ذلك اللفظ، وأغلب الظن أن يكونوا متعمدين، فقبّح الله التعصب, فإنه ما دخل شيئا إلاّ أفسده، والمراد بعرب الحجاز: ربيعة ومضر.
3 - انتظر إسماعيل الرجل الذي وعده في المكان الذي وعده أن يجتمع به يوماً وليلة, وانتظر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي تبايع معه في الجاهلية قبل أن يكون نبياًًً في المكان الذي وعده ثلاثة أيام، فما المراد بهذا الانتظار؟ هل هو حرص على قضاء تلك الدريهمات؟ لا والله, ولكنه تلقين درس في الأخلاق، يعتبر به كل موفق، ويلتزمه كل إنسان ذو شرف ومروءة يحترم نفسه. والعادة الجارية في الشعوب الراقية التي تقدّس الأخلاق أنّ المتواعدين إذا مرت خمس دقائق إلى ربع ساعة ولم يجيء أحدهما فقد برئت ذمة المنتظر، وبقيت ذمة صاحبه معلقة، فإن كان له عذر قاهر برئت ذمته هو أيضا، وألا توجه اللوم إليه، وكان هو الخاسر الذي يجب عليه أن يعتذر لصاحبه ويخجل كل الخجل.
وكل أمة شاع فيها الوفاء بالوعد وتنافس أبناؤها في التخلق بهذا الخلق الجميل الذي هو أحد أركان الأخلاق سعدت وقويت، وانتصرت على أعدائها، وبلغت من ذلك فوق ما أملت، كما أن كل أمة شاع فيها أخلاق الوعد ونقض العهد، وما إلى ذلك من الكذب والخيانة والغدر والظلم والخداع, فإنها لن تفلح أبدا ولن تكتب الحياة لها الحقيقة ما دامت متخلقة بتلك الأخلاق المرذولة, سواء استوطنت الصحراء أم استوطنت أغنى الأراضي وأجملها, فإنها تعيش في شقاء دائم, وظلام مدلهم.
وهذه الحقيقة لا تتغير أبداً بتغير المكان أو الزمان أو القوم, ومساويء الأخلاق سبب شقاء الشعوب الأعظم. ومن ينتسب إلى إسماعيل بالنبوة وإلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإتباع يجب عليه أن يعتبر هذا الدرس أكثر من غيره ليكون وارثاً لهما إرثاً حقيقياً يرفعه ويعلي درجته, فإن لم يفعل فإن انتسابه إليهما لا يزيده إلا خزياً وعاراً.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
4 - قوله: "وقد أثنى على أبي العاص": هو أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي، اشتهر بكنيته كان من أعيان مكة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب، فولدت له أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها على كتفه، وصلى بالناس في المسجد وهو حاملها، فإذا ركع وضعها, وإذا سجد وضعها, وإذا وقف حملها.
ولما كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة خرج أبو العاص مع المشركين فأسر، فبعثت زينب بقلادة لتفديه بها، وكانت أمها خديجة رضي الله عنها قد وهبتها لها حين تزوجت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك القلادة رقّ لابنته، وقال للمسلمين: "إن رأيتم أن تردّوا لها قلادتها وتطلقوا أسيرها"، فأطلق سراح أبي العاص، فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ابنته زينب فوفّى بوعده وبعثها.
وفي السنة السابعة للهجرة سافر أبو العاص ومعه قافلة لأهل مكة متوجهاً إلى الشام فأسره المسلمين مرة ثانية، فلما سمعت بذلك زينب قالت: "يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا؟ ", قال: "نعم", قالت: "فاشهد أني أجرت أبا العاص, فأطلقوا سراحه, فتوجه إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها ثم قام فقال: "يا أهل مكة، أوفّيت ذمتي؟ ", قالوا: "اللهم نعم", فقال: "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ثم قدم المدينة مهاجرا فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، وقيل: بعقد جديد, والأول أرجح. وماتت زينب في حياة النبي
¥