بينما ذهب فريق ثالث إلى أن ظهور الخوارج كان بعد ظهور نتائج التحكيم إذ تجمعت أثناء ذلك فرقة من أصحاب علي ? وقالوا لماذا نرضى بحكم الحكمين هذا ولماذا أعرض عن حكم الله لقد كفر بما فعل ولزم علينا أن نحاربه حتى يسلم مرة أخرى ويتوب عن هذا الإثم أو نقتله.
ولعل الصواب في هذا ما ذهب إليه بعض الباحثين وهو أن فريقاً من الخوارج قد خرجوا على علي أثناء قبوله التحكيم مدعين أن ذلك تحكيم لغير الله وأنه متضمن للشك في صحة موقفهم في حربهم لأهل الشام.
وإن فريقاً آخر خرجوا عليه ? بعد أن رفض قبول نتائج التحكيم مدعين أنه قد رفض بهذا حكم الله سبحانه وتعالى. وبعد هذا الربط التاريخي بين حادثة التحكيم وظهور الخوارج فإن على الناقد البصير أن يلتمس أسباباً أخرى أبعد غوراً أدت إلى ظهور الخوارج. (إذ لا يمكن أن يكون هذا الحزب قد تكّون دفعة واحدة بل لابد أن فكرة هذا الحزب التي تكونت حولها مبادئه الأولى كانت منتشرة في فئة من المسلمين أو أنها تتفق مع أغراض أو أفكار أخرى كانت تشغل بال المسلمين قبل التحكيم) (). فما هذه الأسباب؟
أولاً: إن الخوارج كانوا – وخاصة في موقفهم من الإمامة وما يجب أن تكون عليه من عدل واختيار- يمثلون النزعة التي كانت تسود أتقياء الصحابة ? الذين استفزهم الوضع القائم وعدم الاستقرار وسوء توزيع الثروة (). فكانوا يطمحون إلى إنشاء مجتمع تزول فيه الطبقية ويحكمه العدل المطلق ويصير الناس فيه إلى أخوة الإسلام وسماحته الكبيرة, حتى أنهم جوزوا أن لا يكون هناك إمام أصلاً إذا ما تحاكم الناس إلى كتاب الله وعرف كل فرد من الرعية ماله وما عليه (وإذ احتيج إليه فيجوز أن يكون عبداً أو حراً أو نبطياً أو قرشياً) () بل إنهم يرون إن الإمام إذا لم تكن قبيلة تحميه فإن نصبه أولى ليسهل خلعه إذا ما أنحرف عن الصراط القويم بيد أن مثاليتهم هذه انتهت إلى جمود فكري وتعصب عقدي أدى إلى ظهور النزعات المتطرفة والهدامة في صفوفهم.
ثانياً: من الأمور التي تتمثل في حركة الخوارج والتي يرى كثير من الباحثين أنها من أسباب ظهورهم إنها-أي حركة الخوارج- كانت تمثل الروح التقليدية للتمرد القبلي على المركزية والنزوع إلى الفردية التي تمثل أهم خصائص التكوين العقلي للإنسان العربي في جاهليته والتي جاهد الإسلام في تخفيف حدتها ().
وقد أكثر الخوارج من القبائل الربعية التي كانت تشاطر القبائل المضرية في النفوذ والسلطان فليس من السهل على الربعيين أن يسلموا لقريش – وهي مضرية- بالسيادة والرئاسة.
قال محمد أبو زهرة: (ومن أعظم الأمور التي حفزته على الخروج أنهم كانوا يحسدون قريشاً على استيلائهم على الخلافة واستبدادهم دون الناس, ذلك أن أكثرهم من القبائل الربعية التي قامت بينها وبين القبائل المضرية الاحن الجاهلية التي خفف الإسلام من حدتها) ().
بيد إن هذه العصبية لم تمت تماماً في النفوس وأخذت الحياة تدب في عروقها من جديد. فقد جاء في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد (أن علياً ? كان لا يعدل بربيعة أحد من الناس فشق ذلك على مضر وأظهروا لهم القبيح) () فكان هذا التنافس سبباً في انشقاق الخوارج عن علي ?.
ثالثاً: يرى بعض الباحثين أن الخوارج نبتوا من فرقة السبئية الغلاة, فقد كان كثير من الخوارج قبل أن يعرفوا بهذا الاسم ينقدون خلافة عثمان? إن لم نقل كلهم, وربما اشتركوا في قتله ? لذلك كانوا لا يريدون للحرب أن تنتهي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ولا للصلح أن ينعقد مخافة أن يعاقبوا على جريمتهم في قتل عثمان ? فكانوا يعملون دائماً على أن لا يتم الصلح أو النصر المبين لأحد الطرفين, فحين كانت المعركة وشيكة على الانتهاء لصالح علي ? كان الخوارج لا يريدون له النصر وأجبروه على قبول التحكيم فلما قبل به خرجوا عليه من جديد وقالوا له تب كما تبنا وإلا خرجنا عليك.
ويرى الدكتور عرفان عبدالحميد أن مما يقوي هذا الرأي هو (أن بعضاً من آراء الغلاة وجدت لنفسها مكاناً عند بعض فرق الخوارج) ().
فاليزيدية () وهم من فرق الخوارج يرون (أن الله عز وجل يبعث رسولاً من العجم وينزل عليه كتاباً من السماء وينسخ بشرعه شريعة محمد وزعم أتباع ذلك النبي ? هم الصابئون المذكورون في القرآن) ().
¥