وقوله أيضًا:] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [(الأحزاب: 21).
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول، فقال: (اكتب فوالذي
نفسي بيده ما خرج مني إلا حق) ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن
يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا
الأحاديث عنه، وبعضها متواتر، إما لفظًا ومعنى، وإما معنى فقط، وبعضها
مشهور، وبعضها بالأسانيد الصحيحة الثابتة، مما يسمى على قواعد المصطلح
الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا
يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر.
وقد بين الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم هذه الأنواع في كتاب المِلَل والنِّحَل،
وقال عن النوع الأخير - المسمى عند علماء المصطلح الآحاد - إنه هو ما رواه
الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم
باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان،
على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكوافّ، إما إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وإما إلى
الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع، يعرف ذلك من كان من
أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لرب العالمين.
وهذا نقل خص الله - تعالى - به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه
عندهم غضًّا جديدًا حديثًا على قديم الدهور منذ أربعمائة وخمسين عامًا، في
المشرق والمغرب والجنوب والشمال، يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا
خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده، قد تولى الله - تعالى - حفظه
عليهم - والحمد لله رب العالمين - فلا تفوتهم ذلة في كلمة فما فوقها في شيء من
النقل إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقًا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى
الشكر.
أيها السادة:
هذه صورة مصغرة، بل لمحة خاطفة على المجهود الهائل الذي بذل سلفنا
الصالح - رضوان الله عليهم - للمحافظة على آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم
طاعة لما أمر به أصحابه في حجة الوداع (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ
أوعى من سامع).
أفيجوز بعد ذلك لكل من ركب رأسه، وأعجبه عقله، ورضي عن نفسه، أن
يقول هذا حديث صحيح وهذا حديث غير صحيح؟ أولا يعلم أنه حين يرد حديثًا
صحيحًا - إما بنفي ثبوته وإما بتأويله عن غير وجهته - يرمي رجالاً من الثقات
الأثبات والعلماء الحافظين بأنهم كاذبون أو جاهلون وهو لا يعرف شيئًا من أخبارهم
ولا أحوالهم، وأنه يرميهم في دينهم وأمانتهم وصدقهم، وأنه حين يرضى عن
حديث مفترى فيزعم أنه صحيح ثابت، يشارك من افتراه في فريته، ويدخل
تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو
أحد الكذابين).
أيها السادة:
أرجو أن تعذروني إذا أطلت القول في ذلك؛ فإنه بسبيل مما نعرض من
إثبات حديث الإسراء والمعراج، ولأن الجراء من الناس استرسلوا في العبث
بالسنة الشريفة عدوًا وبغيًا.
فلم يكتفوا بتكذيب الرواة الثقات والأئمة الإثبات، بل زادوا عدوانًا وطغيانًا،
اجترءوا على تكذيب بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم رسله إلى
من بعدهم، والأمناء على دينه وشريعته، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن بما
لم يثن على غيرهم من أصحاب الأنبياء، وهم السابقون المقربون، رضي الله
عنهم ورضوا عنه.
أيها السادة:
إن حديث الإسراء والمعراج من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وقد جاء
بروايات كثيرة متواترة، منها المطول ومنها المختصر، ألفاظه مختلفة، وكلها تدل
في مجموعها على صحة هذه الحادثة وعلى ثبوتها التاريخي، مما يسميه العلماء
(التواتر المعنوي) وقد ورد من حديث أنس بن مالك، ومن حديث غيره من
الصحابة، ونقل الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 243) عن الحافظ ابن
الخطاب عمر بن دحية أنه ذكره من حديث أنس، ثم قال: وقد تواترت
الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر
ومالك بن صعصة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي
ابن كعب وعبد الرحمن بن قرظ وأبي حبة وابن ليلى الأنصاريين وعبد الله بن
¥