إيهام للراوي، فلا نعرف منه من الذي حدثه، وهل هو ثقة أو ليس بثقة؟ وهل
أدرك عائشة أو لم يدركها؟ فكلا الحديثين منقطع الإسناد، مجهول الراوي، لا
يحتج بمثله عند أهل العلم.
وقد نقل الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري في تفسيره قول ابن إسحاق، ثم
رده أبلغ رد، فقال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى
بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر
الله، حمله على البراق حتى أتاه وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه
من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان
كذلك لم يكن فيه ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته ولا حجة له على رسالته، ولا
كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم
يكن منكَرًا، ولا على أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي
منهم في المنام على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل.
وبعد فإن الله أخبرنا في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح
عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره، ولا دلالة تدل على أن
مراد الله من قوله:] أَسْرَى بِعَبْدِهِ [(الإسراء: 1) أسرى بروح عبده، بل الأدلة
الواضحة والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به
على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه، لم تكن الروح محمولة على
البراق؛ إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام، إلا أن يقول قائل إن معنى قولنا
أسرى بروحه، رأى في المنام أنه أسري بجسده على البراق، فيكذب حينئذ بمعنى
الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن جبريل حمله على
البراق؛ لأن ذلك إذا كان منامًا - على قول قائل هذا القول - ولم تكن الروح عنده
مما تركب الدواب، ولم يحمل على البراق جسم النبي صلى الله عليه وسلم، لم
يكن النبي صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق، لا جسمه ولا شيء
منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل وما
تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن
الأئمة من الصحابة والتابعين.
أيها السادة:
هذا ما قاله الطبري في الرد على ابن اسحاق، وقد رأيتم وهن حجته فيما
روى عن عائشة ومعاوية، وقد جاء عن عائشة ما يخالف رواية ابن اسحاق،
فروى الحاكم في المستدرك من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي عن محمد بن كثير
الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي
صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس
ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى
صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا:
نعم. قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق. فقالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت
المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك،
أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقد رواه البيهقي، والحاكم فيما نقله الحافظ ابن كثير، ورواه أيضًا ابن
الأثير في أسد الغابة، بإسناده من طريق المفضل بن غسان عن محمد بن كثير
الصنعاني، وهذا إسناد صحيح صححه الحاكم ووافقه الحافظ الذهبي، وهو ينقض
رواية ابن إسحاق المجهول إسنادها؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - ترى أن خبر
الإسراء كان من أثره أن كذب من كذب، وارتد من ارتد، وأن أباها الصديق
رضي الله عنه صدق الخبر وأبان عن حجته في التصديق، فلو كانت ترى أن ذلك
كان بالروح أو أنه كان منامًا لما كان هناك معنى عندها للتصديق والتكذيب، ولا
فتنة يفتن بها من ضعف يقينه فيرتد عن دينه؛ إذ كان لا غرابة فما يراه النائم، وإذ
كان العرب يصدقون الكهان فيما يخبرونهم به عما غاب عن أبصارهم، فلم يكن لهم
أن يكذبوا رجلاً يحدثهم عن رحلة روحية تكون أقرب إلى خيالات الأوهام إذا فهموا
من كلامه أنه إنما أسري بروحه ثم عرج بها إلى السماء، وإنما المفهوم الواضح
أنهم يكذبون من يحدثهم بشيء يرونه غير داخل تحت قدرة البشر، وشيء يعجز
الإنسان بجسمه وعقله وبروحه أن يقوم به وحده.
أيها السادة:
¥