يرى هذا الفريق أن هذا الشخص يعتبر مقيماً صحيحاً قد عزم على ترك الصوم واستمر على الترك حتى انتهى وقت النية وهو طلوع الفجر، وعدم معرفته بالحكم لا يؤثر في وجوب الكفارة عليه، فيكفيه العلم بوجوب الصيام على الحاضر، وبما أنه شهد بدء الصيام وهو حاضر فيترتب عليه الجزاء الذي رتبه الشارع على من ترك هذا الواجب [15].
المختار: أرى أن مثل هذا الفعل خطأ من فاعله، لأن الأمر في الرخصة منوط - كما قلنا سابقاً- بالسفر، ولا يعطى الشخص صفة السفر حقيقة إلا إذا تحرك فعلاً في طريقه، وكونه عازماً على السفر لا يصح أن يكون مبرراً للفطر لجواز أن يعدل عن السفر بعد الفجر لسبب من الأسباب، كتحقق الغرض الذي كان سيسافر من أجله، أو وجد مانع منه، كانقطاع الطريق، أو عدم وجود ما يسافر عليه، والأسباب المانعة كثيرة، لذلك كان يجب عليه أن يبيت نية الصوم فإذا ما بدأ سفره كان له حينئذ الأخذ بالرخصة.
أما الجزاء على هذا الخطأ: فأرى- والله أعلم- أن الرأي الذي يقول بوجوب إمساك بقية اليوم- إن لم يسافر- ثم قضاء هذا اليوم بعد ذلك هو الأنسب لمثل هذا الفعل لأنه متأول فهو معذور لوجود العزم على السفر عنده.
بدء سريان الرخصة من حيث المكان:
نقل عن الحسن البصري وعطاء، أن من عزم على السفر فإن له أن يفطر في بيته قبل أن يخرج إلى طريقه، وقد حكي هذا عن أنس رضى الله عنه، فقد روى عن محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ فقال: سنة. ثم ركب، قال الترمذي هذا حديث حسن (وقد تقدم هذا الحديث قريباً وتقدم ما قيل فيه).
وقد قال ابن عبد البر- تعليقاً على هذا القول- قول الحسن قول شاذ وليس الفطر لأحد في الحضر، في نظر ولا أثر [16].
ولكن ابن العربي صحح هذا الرأي ونسبه إلى الإمام أحمد بن حنبل [17].
إلا أن الثابت في المغني أن المذهب الحنبلي، يرى مع أكثر الفقهاء، ضرورة مجاوزة البيوت حتى يباح الفطر [18].
وسنعرف ما هو الحق إن شاء الله بعد عرض الرأي الثاني وأدلته فيما يلي: يرى أكثر الفقهاء: أن الفطر لمريد السفر لا يجوز إلا إذا فارق بنيان البلدة التي يقيم فيها، وذلك لما يأتي:
أ- أن الآية {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: علقت رخصة الفطر على حصول السفر ولا يطلق على الشخص وصف مسافر إلا بعد خروجه من مباني البلدة التي يقيم فيها، فلا يقال لشخص متحرك داخل بلده- راجلاً أو راكباً- مسافر. بل يطلق عليه هذا الوصف بعد خروجه من البلدة.
ويقوي هذا القول، ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في قصر الصلاة- والقصر والفطر صنوان في الرخصة- فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ القصر من ذي الحليفة ... فقد تقدم في حديث أنس (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين) [19].
وهناك رأي ثالث لإسحاق بن راهويه: وهو: أن المسافر له الفطر متى تحرك في بدء سفره، قال إسحاق: إذا وضع رجله في الرحل، فله أن يفطر وحكاه عن أنس بن مالك. وقد تقدم حديث أنس المفيد لذلك قريبا.
ويمكن أن يستدل له بحديث أبي البصرة الغفاري أيضاً حيث طلب غذاءه فأكل بعد أن تحركت به السفينة وهو لا يزال بمرأى من مباني بيوت البلدة. وقد تقدم قريباً وتقدم بيان ما قيل فيه.
المختار: كل من الآراء الثلاثة له مستند قوي من السنة: فحديث بدء قصره صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة يؤيد رأي الجمهور في أن الفطر يكون بعد مجاوزة البيوت، والحديث وإن لم يكن نصا في الموضوع إلا أن القصر والفطر يشتركان في أكثر الأحكام. وحديث أنس يقوي وجهة من قال بجواز الفطر قبل الخروج من البيت وهو وإن لم يصرح فيه بذلك، إلا أنه مفهوم من السياق، لأنه مادام قد أكل بعد أن رحلت له دابته، فليس من الجائز أن يكون قد أكل في الطريق وليس في هذا الحديث دليل لإسحاق، لأن أنس قد أكل قبل أن يركب، لكن ما يشهد لإسحاق هو حديث أبى بصرة، لأن فيه: أنه قد أكل بعد أن تحركت به سفينته، وهو على مرأى من البيوت وإذا قيل: بأنه قد أكل بعيد مجاوزة البيوت أي بعد أن جاوزها بقليل- فهذا القول ليس ببعيد- لأن قول الراوي له: ألست ترى البيوت، يفهم منه، أن الأكل قد حدث قبل مجاوزة
¥