وأما حديث "ليس منا من حلق" فهو مختصر من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ" ليس منا من حلق، وخرق، وسلق"، هكذا رواه جمع الأئمة، منهم الإمام أحمد في (مسنده) (4/ 411)، والشيخان في (صحيحيهما) بنحوه، وترجمة البخاري في (الصحيح) بقوله: " باب ما ينهى عن الحلق للمصيبة"، فالحديث إذن خاص بمن يحلق إعلانا لحزنه بمناسبة وفاة قريبه، المتضمن الاعتراض على قضاء الله تعالى بقرينة قوله:"وسلق" أي رفع صوته في النياحة.
ويؤكد ذلك مناسبة رواية أبي موسى للحديث في مرض موته في (الصحيحين)، وهو مخرج في (الإرواء) (رقم771)، وفي (أحكام الجنائز)، وأما أثر ابن عباس المذكور في الفتوى، فلم أقف على إسناده، وما إخاله يصح، فإن صح حمل على التشبه بالخوارج لما تقدم.
وأما القول بان توفير شعر الرأس سنة، فليس عليه دليل تقوم به الحجة، ولا يكفي في ذلك انه صح عن النبي? لأنه من العادات، فقد صح أيضا أنه ? دخل مكة وله أربع غدائر، كما في كتابي (مختصر الشمائل المحمدية) (35/ 23)،والغدائر هي الذوائب والضفائر، فهي مجرد عادة عربية، ولا يزال عليها بعضهم في بعض البوادي، أفيقال: إن ذلك سنة أيضا؟! كلا، فإنه لا بد في مثل هذه العادات من دليل خاص يؤيد أنها سنة تعبدية، كيف وقد سوى النبي? بين الحلق وتركه في قوله:" احلقوه كله، أو ذروه كله" بل حلق رؤوس الصغار الثلاثة، كما ذكر في الفتوى، وهو حديث صحيح أيضا خرجته في كتابي (أحكام الجنائز وبدعها) (ص166).
فليس لأحد من الشباب المبتلين بالتشبه بالكفار أو الفساق في شعورهم؛ أن يتستر بالسنة، فإنها عادة، وليست سنة عبادة، ولا سيما أن الكثيرين منهم، لا يتشبهون بالنبي? فيما يجب عليهم، مثل قص الشارب، وإعفاء اللحية.
{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشه أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
السؤال 44: ما الحكم الشرعي في صلاة الجماعة الثانية في المسجد؟
الجواب: اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعة الثانية، ولكن قبل ذكر الخلاف، وبيان الراجح من المرجوح لا بد من تحديد الجماعة التي اختلفوا فيها.
موضوع الخلاف هو في جماعة تقام في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب، أما الجماعات التي تقام في أي مكان: في دار، أو مسجد طريق، أو دكان فلا مانع من تكرار الجماعة في هذه المواطن.
ويأخذ العلماء الذين يقولون بكراهة تعدد الجماعة في مثل هذا المسجد-الذي له إمام راتب ومؤذن راتب-هذا الحكم من استدلالين اثنين: أحدهما نقلي من الشارع، والآخر نظري وهو تأمل الرواية، والحكمة من مشروعية صلاة الجماعة.
أما النقل: فقد نظروا فوجدوا أن النبي ? ظل طيلة حياته يصلي بالناس جماعة في مسجده، ومع ذلك فكان الفرد من أصحابه إذا حضر المسجد وقد فاتته الجماعة صلى وحده ولم ينتظر، ولم يلتفت يمينا ويسارا-كما يفعل الناس اليوم يطلبون شخصا أو أكثر ليصلي أحدهم بهم إماما.
ولم يكن السلف يفعلون شيئا من هذا؛ فإذا دخل أحدهم المسجد ووجد الناس قد صلوا صلى وحده، وهذا ما صرح به الإمام الشافعي في كتابه (الأم) -وكلامه في الواقع من اجمع ما رأيت من كلام الأئمة في هذه المسألة-حيث قال: (وإذا دخل جماعة المسجد، فوجدوا الإمام قد صلى صلوا فرادى، فإن صلوا جماعة أجزأتهم صلاتهم، ولكني أكره لهم ذلك، لأنه لم يكن من أحوال السلف)
ثم قال: (وأما مسجد في قارعة الطريق-ليس له إمام راتب ولا مؤذن راتب-فلا بأس من تعدد الجماعة فيه).
ثم قال: (إنا قد حفظنا أن جماعة من اصحاب النبي? فاتتهم صلاة مع الجماعة، فصلوا فرادى مع أنهم كانوا قادرين على ان يجمعوا فيه مرة أخرى، لكنهم لم يفعلوا؛ لأنهم كرهوا أن يجمعوا في مسجد مرتين).
هذا كلام الشافعي، وما ذكره من ان الصحابة كانوا يصلون فرادى إذا فاتتهم صلاة الجماعة -ذكره معلقا بصيغة الجزم لهذا المعلق، ووصله الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة في كتابه المشهور (المصنف) رواه بإسناد قوي عن الحسن البصري أن الصحابة كانوا إذا فاتتهم صلاة مع الجماعة صلوا فرادى.
وذكر هذا المعنى ابن القاسم في (مدونة الإمام مالك) عن جماعة من السلف، كنافع مولى ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وغيرهم أنهم كانوا إذا فاتتهم الصلاة صلوا فرادى ولم يعيدوها جماعة أخرى.
¥