تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالتذلل لأمر الله تبارك وتعالى: أن نتلقاه بذلة من غير استنكاف، ومن غير نفرة، ومن غير تعال عليه, و إنما يخضع العبد لأمر ربه ومولاه جل جلاله، فيتقبل هذا الأمر وينقاد إليه، ويتمثل هذا التوجيه الرباني مع موافقته الباطن لظاهره، مع إظهار الضعف والافتقار لهداية الله عز وجل. فهو منقاد لأمر ربه بقلبه وجوارحه متواضع لله جل جلاله.

وأما الاستسلام لحكم الله عز وجل: فهذا يشمل الحكم بنوعيه: الحكم الشرعي، فلا يعترض على شرائع الدين، وأحكام الله عز وجل الدينية فيقول: يا رب لماذا تشرع هذا. ولا يعترض على أحكام الله القدرية الكونية، فإذا نزل به مصيبة أو بمن يحب، فإنه يتلقى ذلك بالصبر والرضى دون أن يتسخط، ودون أن يعترض على الأقدار، فهو لا يعارض أمر الله الشرعي بشهوة ولا برأي ولا يعارض قدر الله بتسخط، أو تذمر، وامتعاض.

وأما ما يتعلق بالتواضع لنظر الله عز وجل: فهو أن يتواضع القلب والجوارح لله عز وجل، فينكسر قلبه، وينكسر العبد أيضاً لاستشعاره أن الله ينظر إليه ويراه، وأن الله مطلع عليه، يعلم تفاصيل أحواله، هذه هي المرتبة الأولى.

أن تستسلم لربك ومولاك ظاهراً وباطناً وأن تخضع لأحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأن تتطامن وتتواضع لربك ومليكك جل جلاله.

وأما المرتبة الثانية: هي الرجوع إلى النفس باستشعار نقصها وضعفها وعجزها، أن يستشعر العبد أنه مقصر ومذنب، فيورثه ذلك أيضاً تواضعاً. وأما في نظره إلى الخلق فإنه يرى فضائلهم ومحاسنهم، فنظره إلى النفس بأن لا يلتفت إلى محاسنها، ومن ثم فلا يطالب الناس بحقوقه عليهم، ولا يطلب الناس أن يقدموا له شيئا من الإكرام والإجلال، أو يتشوق إلى رد المعروف الذي استشعره عليهم لكنه في المقابل إذا نظر إلى الناس فإنه ينظر إلى أفضالهم و إحسانهم، وينظر إلى مناقبهم ومحاسنهم، فيثني عليهم ويشكر معروفهم، ويحفظ صنائعهم، فلا تضيع ولا تنسى، وهذا لا شك أنه من أكمل الكمالات، وأن العبد ينظر إلى نفسه بعين النقص، وينظر إلى غيرة بالنظر إلى فضائلهم ومحاسنهم، ومن ثم فإنه لا يتعالى على الخلق، ولا يجد له عليهم معروفاً وصنيعاً.

أما المرتبة الثالثة: فهي أن يصفي قلبه من النظر إلى المخلوقين، فلا يلتفت إليهم بعمله الصالح، فلا يعمل أعمال صالحة، وقلبه يتشبث بهم ويتطلع إليهم، هذا مع إخفاء أحواله عن المخلوقين، فلا يعرفون أحواله مع الله عز وجل من عبادة وخشوع و إخلاص وغير ذلك مما قد يظهره العبد للناس، فهذا شي بينه وبين الله تعالى، فصارت مراتبه ثلاثاً.

سادساً: و أما مراتب الناس في الخشوع:

فأقول: كما أن الخشوع يتفاوت في نفسه وليس على مرتبه واحدة؛ فكذلك الناس يتفاوتون فيه بحسب ما يقع في قلوبهم من معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفات عظمته وجلاله، واستشعار مراقبته، وكذلك ما يكون في قلوبهم من معرفة النفس ونقائصها وعيوبها، وكذلك بحسب فهمهم وتدبرهم لمعان القرآن، فيتفاوت الناس في ذلك تفاوتًا كبيرًا، ويكون بين الواحد ومن بجانبه في الصلاة مثلاً كما بين المشرق والمغرب، مع صرف النظر عن مادة هذا الخشوع والسبب الموصل إليه بالنسبة لهذا أو ذاك.

فمن الناس من يتحقق له هذا الخشوع لقوة مطالعته بقرب الله عز وجل من عبده وإطلاعه على سره وضميره و مكنوناته، فيستحي من الله ويراقب ربه في حركاته و سكناته، ومنهم من يجعل له الخشوع لمطالعته لكمال الله وجماله المقتضي الاستغراق في محبته والشوق إلى لقائه، وبعضهم يخشع حين يستشعر قوة الله عز وجل وجبروته وبطشه، وشدة أخذه، و نكاله للظالمين المجرمين الخارجين عن حدوده وطاعته. فهؤلاء يحصل لهم الخشوع مع صرف النظر عن الأمر الذي أوجب لهم هذا الخشوع. وهم كذلك أيضاً في هذا الباب بين ظالم لنفسه، وبين مقتصد، وبين سابق بالخيرات بإذن الله [انظر مجموع الفتاوى 7/ 28 - 30]؛ لأن مراتب السالكين إلى الله جل جلاله في العبودية لا تخرج عن هذه المراتب الثلاث كما قال الله عز وجل:} ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [32] {[سورة فاطر]. فالظالم لنفسه هو المقصر في الواجبات، المرتكب للمحظورات، والمقتصد: هو من اقتصر على الأمر الواجب دون زيادة أو نقص، وترك

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير