الترجيح: يترجح القول الأول لصراحة الأحاديث الدالة عليه، وقوة المناقشات الواردة على ما استدل به أصحاب القول الثاني.
هذا، وقد اختلف القائلون بنهاية وقت المغرب بالشفق؛ في تحديد الشفق المراد، على قولين:
القول الأول: أن الشفق هو البياض. وقال به أبو حنيفة، والمزني من الشافعية، وهو رواية عن أحمد.
القول الثاني: أن الشفق الحمرة. وهو رواية عن أبي حنيفة اختارها صاحباه، وبه قال الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة في مشهور مذهبهم.
أدلة أصحاب القول الأول:
الدليل الأول: قول النبي ?: "وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق".
وجه الدلالة: أنه جعل آخر وقت المغرب باسوداد الأفق بالظلام، وهذا يكون بعد ذهاب البياض.
المناقشة: يناقش من وجهين:
1/ أن الحديث لم يرد بهذا اللفظ، وإنما ورد أن النبي ? كان يصلي العشاء حين يسودّ الأفق.
الجواب: يجاب بأن الحديث فيه بيان أول وقت كل صلاة وآخره؛ وحين يصلي النبي ? العشاء عندما يسودّ الأفق، فهو دليل على أنه قد خرج وقت المغرب، لأن الوقتين متصلان ليس بينهما فصل ولا اشتراك.
2/ أنه معارض للأحاديث الأخرى؛ وبالتالي فإنه يُجمع بينها بأن يُحمل حديث جبريل على حين الفراغ من الصلاة، وإن لم يمكن الجمع؛ فإنها مقدّمة عليه لأنه –أي: حديث جبريل- كان في أول فرض الصلاة.
الدليل الثاني: لأن الشفق اسم لما رقّ، فالثوب الرقيق شفيق، ومنه شفقة القلب وهي رقّته ومحبته، ورقّة نور الشمس باقية ما بقي البياض.
أو أن الشفق اسم للرديء من الشيء وباقيه، والبياض باقي آثار الشمس.
المناقشة: يناقش بأن الشفق الحمرة؛ فهو من الأضداد؛ لكن يترجح جانب الحمرة بما سيأتي في أدلة القول الثاني.
الدليل الثالث: إن الحمرة والبياض أثر النهار، وما لم يذهب الأثر لا يصار إلى الليل، ومعلوم أن صلاة العشاء في الليل، فدل على أن وقتها يبدأ من مغيب البياض، فكان بالضرورة آخر وقت المغرب.
المناقشة: يناقش من وجهين:
1/ أن الأثر لا عبرة به؛ بدليل أن الصبح من صلاة النهار؛ مع أن الظلمة باقية في الأفق الغربي. وحتى لو قلنا: إن صلاة الفجر من الليل؛ فهو منقوض بالبياض في الأفق الشرقي. فكيف نجعل البياض مؤثراً في الغرب وغير مؤثر في الشرق.
2/ أن العبرة بالغالب –لو اعتبرنا الأثر-، والغالب حينئذ ظلمة المشرق، فيكون العبرة بها والسلطان لها.
الدليل الرابع: أن انتهاء المغرب بالحمرة مشكوك فيه؛ فيبقى على الأصل وهو بقاء الوقت حتى يغيب البياض ونتيقن مغيب الشفق.
المناقشة: يناقش من وجهين:
1/ أنه استدلال بمحل النزاع؛ وهو ممنوع.
2/ أن خروج المغرب بمغيب الحمرة متيقن؛ لأنه لا تعارض بين الأدلة؛ بل الجمع ممكن.
أدلة أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: قوله تعالى:"فلا أقسم بالشفق".
وجه الدلالة: قال البغوي: "قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هو الحمرة"اهـ.
وقال القرطبي: "أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه، ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له" اهـ.
الدليل الثاني: حديث ابن عمر ? قال: قال رسول الله ?: "الشفق الحمرة".
وجه الدلالة: فسّر النبي ? الشفق بأنه الحمرة.
المناقشة: يناقش بأنه لا يصح رفعه، بل هو موقوف على ابن عمر?.
الدليل الثالث: حديث عبدالله بن عمرو ? قال: قال رسول الله ?: "ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق".
وجه الدلالة: أن ثور الشفق هو ثورانه وشدته؛ وهي الحمرة.
الدليل الرابع: لأن الطوالع ثلاثة: الفجر الكاذب، والصادق، والشمس. وكان الاعتبار بالأوسط منها، فكذلك يقال في الغوارب أن الاعتبار بالأوسط منها. والغوارب هي: الشمس، والحمرة، والبياض.
الترجيح: القول الثاني هو الراجح لقوة أدلته وضعف أدلة المخالف وورود المناقشة عليها.
رابعاً: صلاة العشاء.
أجمع أهل العلم على أن وقت العشاء يبدأ بمغيب الشفق، على خلاف بينهم في تحديد الشفق المراد؛ -وتقدم قريباً-. ومن الأدلة على ذلك:
الدليل الأول: حديث جبريل ?، وفيه: حتى إذا ذهب الشفق جاءه فقال: قم فصلّ العشاء، فقام فصلاها.
وجه الدلالة: أن جبريل جاءه في اليوم الأول عندما غاب الشفق، فدل على أنها لا تصح قبله.
الدليل الثاني: حديث أبي موسى ?، وفيه: ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق.
¥