مضر, والله إن قتلهم لذل, وإن تركهم لحسرة ().
ولجأ عبد الملك إلى المسالمة, وكتب إلى زفر يدعوه إلى طاعته ويرغبه فيها, ويهدده إن لم يقبل ذلك, وبعد جهود ومفاوضة أرسل إليه زفر يجيبه إلى طلبه, ويشترط عليه أن يبقى له الخيار في أن يظل مخلصًا لابن الزبير أو ينضم إلى عبد الملك, ورغم ذلك فقد وافق على شرطه, وأعطاه الأمان هو وابنه وقائده الهذيل بن زفر, وجميع أتباعهما, ولم يأخذ بمال أو دم أهدره, بل أعطى عبد الملك الزعيم القيسي مبلغًا من المال يوزعه بين أتباعه, ثم اختتم ذلك العمل بأن زوج ابنه مسلمة بن عبد الملك بالرباب بنت زفر بن الحارث, كما أمر زفر ابنه الهذيل أن ينضم إلى جيش عبد الملك المتجه إلى حرب مصعب ابن الزبير, إذ لم يكن على ولده ما عليه هو من بيعة ابن الزبير () , وحرص عبد الملك على تحقيق التوازن بين القبائل اليمانية والقيسية, وجعل في أصحابه زفر بن الحارث الكلابي وابنيه الهذيل وكوثرًا وعبد الله بن مسعدة الفزاري وغيرهم من زعماء قيس, كما كان في أصحابه حسان بن مالك الكلبي, وروح بن زنباع الجذامي, ورجاء بن حيوة الكندي وغيرهم من زعماء اليمانية, وكما عدل بين الفريقين في مجلسه عدل بينهم في وظائفه؛ فكان يختار ولاته على الأمصار من القيسية غالبًا بينما يختار موظفي بلاطه من اليمانية .. وهكذا ().
تاسعًا: ضم العراق والقضاء على مصعب بن الزبير:
بعد أن استعاد ابن الزبير نفوذه على العراق أصبحت المواجهة محتومة بينه وبين عبد الملك, الذي قرر أن يقود المعركة بنفسه بعد أن شاور خاصته في ذلك, فمنهم من أشار عليه أن يقيم في الشام, ويرسل واحدًا من أهله ليقود الجيش, ومنهم من أشار عليه بأن يسير بنفسه, فمال هو إلى هذا الرأي. وقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي, ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له, وإني بصير بالحرب, شجاع بالسيف, إن احتجت إليه, ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب .. ومعه من يخالفه, ومعي من ينصح لي ().
عزم عبد الملك -إذن- على السير إلى العراق لانتزاعه من ابن الزبير, وكان ذلك في سنة 71هـ, أي بعد أربع سنين من القضاء على المختار, ولعله أخر الصدام مع ابن الزبير إلى هذا الوقت متعمدًا, فهو لم يشأ أن يسير إلى العراق إلا بعد أن يوطد دعائم حكمه في الشام, فقضى هذه السنين في تحقيق هذا الهدف, فقد حل مشاكله مع زفر بن الحارث الكلابي الذي كان معتصمًا في قرقيسيا () , مهددًا بذلك إقليم الجزيرة كله, وقد عالج عبد الملك مشكلة زفر بالحكمة والسياسة, واصطلح معه, وأنهى بذلك مسألة قرقيسيا التي استمرت حوالي سبع سنين كالشوكة في جنب دولته, وأحكم سيطرته على إقليم الجزيرة () , ثم تخلص من منافسه الخطير, وهو عمرو بن سعيد الأشدق () , ولما أراد الخروج للعراق ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية, فبكت وبكى جواريها لبكائها, فقال: قاتل الله كثير عزة لكأنه يشاهدنا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه
حصانٌ عليها عِقدُ دُرٍ يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت وبكى مما عناها قطينها ()
وسارع عبد الملك إلى العراق بجيشه, وجعل على مقدمته أخاه محمد بن مروان, ونزل بمسكن, وكان مصعب قد علم بمسيره, ونزل بمسكن مقدمته إبراهيم بن الأشتر, ونزل باجميرا () , وأخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق من جيش مصعب يعدهم ويمنيهم, وكان إبراهيم بن الأشتر قائد جيوش المختار الثقفي قد انضم إلى مصعب بعد مقتل المختار, وكتب إليه عبد الملك أيضًا, فأخذ الكتاب مختومًا ودفعه إلى مصعب, فقال له: ما فيه؟ فقال له: ما قرأته, فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه, ويجعل له ولاية العراق, فقال لمصعب: إنه -والله- ما كان من أحد آيس منه مني, ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي, فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم, قال: إذًا لا تنصحنا عشائرهم, قال: فأوقرهم حديدًا, وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هناك, ووكل بهم على عشائرهم, فقال: يا أبا النعمان, إني لفي شغل عن ذلك, يرحم الله أبا بحر -الأحنف بن قيس- إنه كان ليحذرني غدر أهل العراق, كأنه ينظر إلى ما نحن فيه ().
¥