تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الحق وإليه تدعو فامض له, فقد قتل عليه أصحابك, ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية, وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت, أهلكت نفسك, وأهلكت من قتل معك, وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت, فهذا ليس من فعل الأحرار ولا أهل الدين, وكم خلودك في الدنيا, القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا -والله- رأيي, والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا, ولا أحببت الحياة فيها, وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه, ولكني أحببت أن أعلم رأيك, فزدتني بصيرة مع بصيرتي, فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا, فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله, فإن ابنك لم يتعمد منكرًا, ولا عملاً بفاحشة, ولم يجر في حكم الله, ولم يغدر في أمان, ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد, ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته, ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي, اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي, أنت أعلم بي, ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني, فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني, وإن تقدمتك ففي نفسي, اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيرًا, فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدًا, فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق, ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل, وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة, وبره بأبيه وبي, اللهم قد سلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين () , فتناول يديها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعًا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا, قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها فوقعت يدها على الدرع, فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: ما لبسته إلا لأشد منك. قالت: فإنه لا يشد مني, فنزعها ثم أدرج كميه, وشد أسفل قميصه, وجبة خز تحت القميص, فأدخل أسفلها في المنطقة, وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة, ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:

إني إذا أعرف يومي أصبر

وإنما يعرف يومه الحُر

فسمعت والدته قوله فقالت: تصبر والله إن شاء الله, أبوك أبو بكر والزبير, وأمك صفية بنت عبد المطلب ().

4 - استشهاد ابن الزبير ?: إن الثبات على المبدأ -وإن كان يعارض مصالح الشخص, ويعرضها للخطر- يعتبر من أنبل الصفات, وقد تأصلت هذه الصفة في ابن الزبير, فما وهن وما ضعف وما استكان في سبيل المبادئ التي نادى من أجلها, ففي آخر يوم من حياته صلى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: +ن وَالْقَلَمِ" حرفًا حرفًا, ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة جاء فيها: ... فلا يرعكم وقع السيوف فإني لم أحضر موطنًا قط إلا ارتثثت فيه من القتل, وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم, لا أعلم أمرأ كسر سيفه, واستبقى نفسه, فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل, غضوا أبصاركم عن البارقة, وليشغل كل امرئ قرنه, ولا يلهينكم السؤال عني, ولا تقولن: أين عبد الله ابن الزبير؟ ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول.

أبي لابن سلمى أنه غير خالد

ملاقي المنايا أي صرف تيممًا

فلست بمُبتاع الحياة بسُبَّة

ولا مُرتَق من خشية الموت سُلَّما

احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون, فرُمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها, ودمي وجهه, فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

ولكن على أقدامنا تقطر الدما ()

وقاتلهم قتالاً شديدًا, فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة () , وتولى قتله رجل من مراد, وحمل رأسه إلى الحجاج, وسار الحجاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه, فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا, ولولا هذا لما كان لنا عذر, إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا, بل يفضل علينا, فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقًا () , ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك () , وقد ذكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: ما أُراني اليوم إلا مقتولاً, لقد رأيت في

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير