تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولو بعد حين، وكأنهم لم يقرؤوا قول العزيز سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45 - 47]، وقوله سبحانه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97 - 99].

وهنا مسألة خطيرة ومصيبة كبيرة، تعدّ من أعظم المصائب وأفدحها، وأكبر العقوبات على الذنوب وأقساها، حين يصاب المرء ـ وهو لا يدري ولا يشعر ـ بانقلاب الموازين واختلال المقاييس واضطراب النظر وانعدام التمييز، حتى يعود القبيح في نظره حسنًا جميلاً، ويصبح الضارّ في تصوره نافعًا، ويُزَيَّن له سوء عمله فيستحسنه ويستمريه، ويصر عليه ويتمادى فيه، فلا يرى قبحه ولا يحسّ ضرره، ولا يخاف عاقبته ولا يفكر في سوء المصير، ثم هو بعد ذلك يظن أن من سلم من الفقر أو المرض أو حدوث الزلازل وثوران البراكين أو نزول المحن وانتشار الفيضانات وفتح الله عليه الدنيا وكثر ماله وولده وعاش في أمن ورفاهية، يظن أن هذا قد أحبه الله ورضي عنه وأكرمه، وما علم هذا المسكين الذي غرّته نفسه وخدعه الشيطان أنّ من أعظم ما يصاب به المرء أن يُزَيَّن له سوء عمله فيراه حسنًا، فلا يزال بمعاصي الله عاملاً، ولحدوده متعدّيًا، يقترف ما يسخطه، ويقع فيما يغضبه، حتى يعلو الران على قلبه، ويطمس على بصيرته، فلا يعرف بعد ذلك معروفًا ولا ينكر منكرًا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]، في الحديث عنه أنه قال: ((تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشرِبها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضرّه فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه)).

نعم أيها الإخوة، إن أعظم ما يصاب به المرء أن يستمرئ المعاصي ويحتقرها، ويعمل بالذنوب ولا يخاف عاقبتها، فلا يزال الران يغطي قلبه ويغلّف فؤاده، وكلما زاد هذا الران كان الشيطان أقوى تمكّنًا من ذلكم الإنسان، وأشد تسلّطًا عليه، وأقوى تأثيرًا في قلبه، وأكثر تحريكًا له، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83]، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37].

والسر في ذلك ـ أيها المسلمون ـ أن الروح تُظْلِمُ بالذنوب، وتنجس بالمعاصي، وتكتسب بالخطايا والسيئات صفات قبيحة، تجعلها تتلاءم مع شياطين الإنس والجن وتألفهم، وفي مقابل ذلك تنفر غاية النفرة من الأرواح الطيبة وتبتعد عنها؛ لعدم الملاءمة والمجانسة، قال سبحانه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً [الإسراء:84]، والمعنى أن كلاًّ يعمل على ما يناسبه، فمن كانت روحه طيبة زكية فإنها تعمل ما يتناسب مع طيبها وزكائها، من طاعة خالقها ومرضاته التي لا تزكو ولا تطيب إلا بها، ومن كانت روحه خبيثة نجسة فإنها لا تدله إلا على الشر والمعصية، ولا يناسبها إلا كل ما هو خبيث وقبيح، وفي الحديث عنه أنه قال: ((الأرواح جنود مُجَنَّدَة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير