ـ[عاطف جميل الفلسطيني]ــــــــ[18 - 11 - 09, 02:53 ص]ـ
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون، هاهم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على هذه الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله، ثم بيقظة مسؤوليها، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح. قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلدٌ وتاريخٌ، قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، ديناً ودنيا، علماً وعملاً فقهاً وخلقاً.
أرضٌ طيبةٌ، وجوٌ عابقٌ، تزدحم فيه هذه المناظر والمشاهد، حيةٌ نابضةٌ، تختلط فيه مشاعر العبودية، وأصوات التلبية، والإقبال على الربِّ الرحيم.
في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل، شعورٌ كريمٌ فياضٌ، بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ، إنها أمة محمد، دينها دين الإسلام دين الله رب العالمين.
ما أحوج الأمة في أيام محنتها وشدائدها، وأيام ضعفها وتيهها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأملها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها، تستلهم منها العبر، ويتجدد فيها العزم على الجهاد الحق، ويصح فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد.
ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها، وتردُّ على من يريد القضاء على كيانها.
وإن في حجة نبيكم محمد الوداعية التوديعية لعبراً ومواعظ، وإن في خطبها لدروساً جوامع.
فلقد خطب عليه الصلاة والسلام خطباً في موقف عرفة، ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق – أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين. خطب الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام ديناً للإنسانية كلها، لا يقبل من أحدٍ ديناً سواه: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
ألقى نبيكم محمد في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزةً، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين.
وأنبياء الله حين يبلغون رسالات الله ليسوا تجار كلام، ولا عارضي أساليب، فكلماتهم حق وأوعية معانٍ، وشفاءٌ لما في الصدور، ودواءٌ لما في القلوب.
في حجة الوداع ثبَّت النبي في نفوس المسلمين أصول الديانة، وقواعد الشريعة، ونبَّه بالقضايا الكبرى على الجزئيات الصغرى.
ولقد كانت عباراتٍ توديعيةً بألفاظها ومعانيها وشمولها وإيجازها، استشهدَ الناسَ فيها على البلاغ.
كان من خلال تبليغه كلمات ربه يمتلئ حباً ونصحاً وإخلاصاً ورأفةً: لَعَلَّكَ بَـ?خِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3].
لقد عانى وكابد من أجل إخراجهم من الظلمات إلى النور، حتى صنع منهم – بإذن ربِّه – أمةً جديدةً، ذات أهدافٍ واضحةٍ، ومبادئ سامية، هداهم من ضلال، وجمعهم بعد فرقةٍ، وعلَّمهم بعد جهل.
أيها الإخوة في الله، إخواني حجاج بيت الله:
وهذه وقفات مع بعض هذه الأسس النبوية، والقواعد المصطفوية، والأصول المحمدية.
إن أول شيء أكد عليه في النهي من أمر الجاهلية الشرك بالله، فلقد جاء بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) شعار الإسلام وعلّم الملة، كلمة تنخلع بها جميع الآلهة الباطلة، ويثبت بها استحقاق الله وحده للعبادة.
فالله هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق، وهو القاهر وما سواه مقهور. هذا هو دليل التوحيد وطريقه: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء سُبْحَـ?نَهُ وَتَعَـ?لَى? عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40].
والأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً: إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
ومن القضايا المثارة في الخطاب النبوي التقرير بأن الناس متساوون في التكاليف حقوقاً وواجباتٍ، لا فرق بين عربيٍ ولا عجمي إلا بالتقوى، لا تفاضل في نسب، ولا تمايز في لون، فالنزاعات العنصرية والنعرات الوطنية ضربٌ من الإفك والدجل.
¥