فالله جل جلاله يفعل في ملكه ما يشاء لكنه جل وعلا لا يخلف الميعاد، فهو يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، ومواصفاته جل جلاله لا تحول، ولا تزول، ورغم ذلك فهو كل يوم في شأن، وهكذا تنكشف صفة البداء لكونها من مواصفات الجاهل، والله عنده كل شيء بقدر. ونلاحظ هنا عدم استساغة الدراسة السننية للفظ البداء في حقه سبحانه وتعالى.
2 - المَلَكُ للنفر الثلاث:
إن القصة توحي أيضا بالحالة الربانية التي كان عليها النفر الثلاث، فقد كانوا ربانيين في تعاملهم قبل الابتلاء، ويكشف عن هذا السر، الملك الذي بعثه الله إليهم والرسول يكون من جنس المرسل إليهم بمقتضى حكمة الحكيم جل جلاله.
وضابط ذلك السنن الإلهية التالية:
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى: 51.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُون} الأنعام: 9.
وهكذا يأتي الحديث منضبطا بضوابط السنن الإلهية: ملك يأتي على صفة بشر ويكلم الناس، وما ذلك إلا لعظم قدرهم عند الله ومحبته لهم.
3 - بدء الابتلاء:
يأتي الملك للأبرص ويسأله عن أي شيء أحب إليه، فيجيب لون حسن وجلد حسن ويذهب الله عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، ثم سئل عن المال المحبوب لديه فقال: الإبل أو البقر (شكّاً من الراوي).
تأتي الملائكة البشر بأمر ربها، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وضابط ذلك من السنن الإلهية:
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّك} مريم: 64 ..
{ .. لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: 6.
أما شفاء الأبرص فكل ذلك بإذن الله فقد أذن الله في ذلك لسيدنا عيسى عليه السلام:
{ ... وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ... } المائدة: 110.
وأما الرزق الذي ساقه الله لكل من الثلاثة فهو منضبط بما قيل قبل من كونهم ربانيين في تعاملهم بدليل قوله تعالى: { ... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} الطلاق: 2 - 3.
4 - المرحلة الثانية من الابتلاء:
خالطت بشاشة المال القلوب، وتقلبت أحوال العباد، واستدعت الظروف تذكير العباد بالأحوال وتقلباتها لعل القلوب تصغي، أو يقيم الله حجته على خلقه، ودليل ذلك من السنن الإلهية ما يلي:
{ ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} الإسراء: 15
وإن من العباد من تستقيم حالتهم مع الفقر، ومنهم من لا تستقيم إلا مع الغنى، ومنهم من هو خاضع لجلال الله في كل أحواله.
5 - خلاصة دراسة الألفاظ:
انضبطت ألفاظ القصة بضابط السنن الإلهية في كل مراحلها اللهم إلا ما اتضح من مخالفة لفظ البداء في حقه جل وعلا. وهكذا نزداد يقينا على ما أصله المحدثون بأن ألفاظ مسلم في صحيحه أدق من ألفاظ البخاري رحمهم الله جميعا.
ج- عرض القصة على القواعد الكلية للسنن الإلهية
* - دراسة الحديث على هدي القواعد الكلية:
1 - من حيث قاعدة اليسر:
تجلت سنة اليسر بضابط الآية:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الليل: 5 - 7.
وعكسه انضبط بضابط الآية:
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [/} الليل: 8 - 10.
تأكد لنا من خلال الحديث أن الأقرع والأعمى والأبرص لما اتقوا كانوا أهلا لتكريم الله ولما بخلا الأقرع والأبرص حصدا ما جنته يداهما فكانا أهلا للعسرى، بحيث رجعا إلى ما كانا فيه قبل التكريم.
والملاحظ تطابق القصة مع السنن الإلهية في هذه القاعدة، وتندرج تحت قوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185
2 - من حيث قاعدة التخفيف:
ويتضح لنا من خلال سؤال الملك أنه لم يكن متعسفا في سؤاله ولم يطلب منهم المستحيل، فمن كان له واديا من الإبل طلب له ناقة، ومن كان له واديا من البقر طلب له بقرة، ومن كان له واديا من الشياه طلب له شاة، وليس في الطلب إجحاف ولا حرج ولا مشقة.
¥